د. جاسر الحربش
اتصل بي صديق الطفولة الصحفية إدريس الدريس، للمشاركة في لقاء مع جمع معتبر من المثقفين والكُتَّاب في مبنى الهيئة العامة للغذاء والدواء، بهدف التعرف على إمكانياتها وواجباتها وأدائها حتى الآن. من ذا الذي يستطيع رفض دعوة من إدريس الدريس، وقد أصبح من أساطين الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب ومن ركائز الغذاء والدواء، بما في ذلك المخلوط والمعجون، المقروء فيه وعليه.
كثيراً ما أمرُّ بالدائري الشمالي وألمح مبنى الهيئة العامة للغذاء والدواء على يميني، فأكتفي بالقول المأثور الله يرحم الحال. أخوكم ليس من المطمئنة ولا المؤلفة قلوبهم تجاه الانتشار الكثيف للهيئات والمؤسسات والدوائر والمربعات والمثلثات، مع بقاء الأحوال عالقة في دهاليز الروتين البيروقراطي المشهود له بكفاءة عدم الكفاءة.
قبلت الدعوة واستمعت وشاهدت لثلاث ساعات تعريفاً تقنياً مدعماً بالأرقام والتجهيزات، فغيرت رأيي. لذلك هذا المقال، لمشاركة القارئ في معلومات يجهلها أكثر المواطنين عن هذه الهيئة. بعد انتهاء المقابلة دعوت الله عن اقتناع بدون إقناع، أن يشد في عضد الهيئة العامة للغذاء والدواء ويزيد في صلاحياتها.
تستورد السعودية سبعين بالمئة من مستهلكاتها الغذائية وثمانين بالمئة من مستلزماتها الطبية وقرابة المئة بالمئة من التجهيزات الحديثة للمرافق الصحية العامة والخاصة. المطلوب من الهيئة فحص هذه المستوردات نوعياً وتحمل مسؤولية السلامة والصلاحية من عدمها وتوقع على ذلك. من المهم جداً أن يعرف القارئ أن فحص تلك الكميات الهائلة من البضائع يتم في منافذ القدوم قبل الدخول إلى الأراضي السعودية أو العودة إلى بلد المنشأ. من المهم أيضاً معرفة أن الطواقم الفنية ذات الكفاءات العالية المكلفة بأداء هذه المهمات وطنية مائة بالمئة.
الأغذية والمشروبات والأدوية والأمصال والصيدلانيات ومستلزمات الجراحة والتعقيم والأجهزة الطبية، بالإضافة إلى الأغذية الحيوانية والأعلاف ومبيدات الآفات الزراعية والمنزلية، هذه كلها تقع ضمن اختصاص ومسؤولية هيئة الغذاء والدواء. من المتوقع في مثل هذا الاتساع من الواجبات أن تتشابك وتتشربك الصلاحيات مع وزارات الداخلية والصحة والزراعة والتجارة والبلدية والقروية، وأيضاً مع هوامير ووكالات الاستيراد والتصدير المحلية والعالمية، الوضع يشبه التواجد في غابات الأمازون بكائناتها المفترسة والقابلة للافتراس.
في بداية التعريف بالمسؤوليات قلت لنفسي هذه مهمات تحتاج إلى إمكانيات بشرية وتقنية ومعلوماتية وتواصلية ومرونة عملية تعجز البيروقراطية السعودية عن التعامل معها، وكان هذا الرأي متسرعاً وغير منصف. بعد الشرح المدعم بالتصوير الميداني المباشر، وبعد جولة أسئلة وإجابات مع عقول الهيئة الإدارية والفنية برئاسة الاستاذ الفاضل الدكتور محمد المشعل، اقتنعت بأن الهيئة تستحق الثقة والدعم والدعاء لها بالمزيد من الصلاحيات.
من مقرها في الرياض تكون الهيئة على اتصال مباشر مستمر، مرئي ومسموع مع كل المنافذ البرية والبحرية والجوية السعودية، بحيث يتم اتخاذ القرار النهائي حول أي بضاعة قد تكون موضع تساؤل في الموقع خلال فترة قصيرة وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة بخدمات مناوبات ليلية.
الملاحظات النقدية التي كان لا بُدَّ لي من توجيهها تلخصت في النقاط التالية:
أولاً: استهلاكنا المحلي من الأدوية الشعبية وخلطاتها المعجونة بالخرافة والسموم والميكروبات والتربح الاحتيالي، والارتباط المصلحي بين المسوق الوطني مع العمالة المستقدمة أصبحت تشكل القسم الأكبر والأخطر من الاستهلاك الدوائي في السعودية. الأخطار الجسيمة لهذه الممارسات لا يعرفها عياناً سوى الأطباء الحقيقيين، ولكن العقلية الشعبية ونفوذ العقل المكرس ثقافياً لها تجعلانها عصية على التفكيك. هذه المهمة لم تصل إليها تقنيات وإنجازات ومسؤوليات هيئة الغذاء والدواء بعد.
ثانياً: تشربك الصلاحيات مع عدة جهات حكومية لا يحدث تنافساً نوعياً بقدر ما يخدم البيروقراطية المعطلة. الفرز الواضح للصلاحيات يحتاج إلى قرار سيادي من مجلس الوزراء، بما تتطلبه المسؤوليات الملقاة على الهيئة للغذاء والدواء، وهي حساسة وجسيمة.
ثالثاً: كما فهمت، تقع الصلاحية النهائية في الإذن بدخول البضاعة أو منعها في يد مصلحة الجمارك السعودية. واقع الحال يقول ان الطواقم العلمية الفنية من نصيب الهيئة السعودية العامة للغذاء والدواء. كون القرار النهائي في دخول أو إعادة البضاعة يكون من نصيب مصلحة الجمارك مسألة تحتاج إلى توضيح. لا بُدَّ أن الاعتبارات الشرعية والأمنية والظرف السياسي محددة لدى مصلحة الجمارك بوضوح، لمصلحة المواطن والوطن، دون محسوبيات للمستورد على حساب المستهلك.