د. جاسر الحربش
الافتراض المنطقي والقاعدة المتكررة في التاريخ البشري أن الشعوب عندما تتعرض للغزو تؤجل صراعاتها الفئوية لتصبح بعد التحرير أكثر قبولاً للتعايش، أي أنها تتعلم من التجارب. العرب لا يفعلون ذلك إلا نادراً وبشكل مؤقت، مبقين الأبواب مفتوحة لقابلية الغزو والاستعمار من جديد. هذا الشذوذ عن القاعدة له سبب لم يقترب النقاش الحر العلني منه بعد. هناك وحوش كامنة في العقل العربي الباطن، تسجنها السلطات أحياناً في الزنازين، وتطلقها أحياناً للتأديب في الداخل.
الحديث هنا عن منطقتنا العربية، وليس عن المسلمين بالعموم ولا عن كل ديار الإسلام.
ذات ليلة حالكة في عام 2003م أصدر الرئيس الأمريكي بوش وكلبه البريطاني بلير (هكذا يسميه البريطانيون) الأمر بتدمير العراق. الهدف كان مدروساً ومبرمجاً منذ عشرات السنين، هو إطلاق الوحوش الكامنة في الداخل العراقي لتتولى مهمة القتل والإرهاب والاغتصاب، ولتسهيل تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ. مشروع 2003م لم يكن أوروبياً، لأن ألمانيا وفرنسا، وهما أكبر دولتين أوروبيتين رفضتا المشاركة فيه. الأوروبيون يدركون أن وحوشنا الداخلية نحن العرب سوف يطالهم شيء من نتائج أفعالها لو أفلتت من حراسة الحكم المستبد والفقه السياسي المستمرة منذ قرون. بريطانيا فقط هي التي شاركت لأنها تفضل مصلحياً دور الكلب للراعي الأمريكي، ليس حباً فيه وإنما كرهاً في الألمان والفرنسيين وخوفاً من إمكانياتهما المستقبلية.
مشروع إطلاق الوحوش المحلية بين أهلها مشروع يهودي أمريكي بريطاني قديم. هذه الأطراف تعرف أن التوحش موجود بين صفحات التاريخ وتتربى عليه الأجيال، وأن له حسابات غبية ومدمرة يدعيها بحجة أوضاع القهر وغياب العدالة وتجهيل الشعوب، التي تتحكم بالمنطقة العربية منذ قرون، بالإضافة إلى خلطة متفجرة من الولاءات المذهبية الخرافية والأحقاد القبلية والعرقية. الثلاثة يعرفون أيضاً أن ثمة دولة عنصرية في الجوار تلبس رداءً مذهبياً سياسياً وتعرض خدماتها، يمكن استخدامها بسهولة لتساهم في المشروع وترحب بذلك.
ما هي وأين هي هذه الوحوش التي أطلقها علينا الثلاثة بمساعدة رابعهم ؟. إنها بداخلنا وتكمن في تركيبتنا التربوية والاجتماعية، وحوش لا تموت ولا تفنى لأنها تقتات من بقاء القبلية الجاهلية ومن التاريخ الدموي للفتن والحروب الدينية الكبرى ومن غياب العدالة الاجتماعية وانسداد مسالك التعايش، ومن الفقه المسيس وأنظمة الحكم المرسلة الصلاحيات. وحوشنا الخاصة استساغت دماءنا بعد قتل الخليفة الراشد الثالث وحرب الجمل وما تبعها من أحداث المقتلة الخلافية الكبرى. ما حصل بعد ذلك كان الافتراق النهائي وبداخله الوحوش الكامنة بانتظار الفرص القادمة.
طيلة القرون الماضية كانت الوحوش في بعض الأوقات تعاد إلى الزنازين بفعل القبضة الحديدية من حاكم متغلب، ليطلقها من آن لآخر فترتكب مذابح مختومة ومؤيدة بالفتاوى الشرعية هنا وهناك.
في عام 2003م قامت أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وإيران بكسر واحدة من أهم الزنازين في العالم العربي تبعتها زنازين أخرى، ومنذ ذلك الحين والوحوش تتكاثر وتزداد قوة وخبرة، حتى وصلت الأمور إلى هروب السكان المسالمين بالملايين مما يسمى ديار المسلمين إلى ما يسمونها ديار الكفار طلباً للنجاة.
منظر الطفل السوري الملقى على شاطئ المتوسط دخل التاريخ كعلامة إفلاس أخلاقي وإنساني في العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص، ويجب أن يبقى في ذاكرة أهل هذه المنطقة المنكوبة بفقهها السياسي وبأنظمة حكمها الاستبدادية وبعنصريتها القبلية والمذهبية والعرقية، وبعدم قابليتها للتعلم والتصالح والتعايش.
عندما يجد الآباء أنفسهم أمام الاحتمال اليومي باغتصاب زوجاتهم وبناتهم وسبيهن وباحتمال تجنيد أبنائهم ضدهم، بعد أن هدمت دورهم وصودرت مدخراتهم، حينئذ ماذا يبقى لهم من فرص النجاة في هذا العالم المتوحش؟. أصبحت السلامة في بلاد الكفار أكبر احتمالاً من حفظ النفس والعرض في بلاد المسلمين. لهذا السبب هرب ويهرب مئات الآلاف من المسلمين العرب ومن قبلهم هرب النصارى العرب لنفس الأسباب، وكانت إحدى الأسر تلك التي رأينا طفلها الميت منكباً على وجهه على شاطئ المتوسط ولم يبق من العائلة إلا الأب المكلوم. كانت المغامرة بحياة عائلته أهون عليه من السبي والاغتصاب وحز الأعناق بالسكاكين. لا يلفن أحدكم ويدور متعللاً بالمؤامرة على الإسلام والمسلمين. إنها ليست مؤامرة بل تخطيط عدو ذكي تصالح مع مكوناته الخاصة منذ زمن طويل، وصراعنا معه قديم ومؤرخ بأدق التفاصيل ولكن هذه ليست المشكلة. المشكلة هي أن العدو يعرف مواصفات وحوشنا القبيحة ويستطيع بمهارة متفوقة برمجتها عند الحاجة ضد أهلها الذين كانوا يستعملونها ضد بعضهم البعض ولا يتخلصون منها بالقضاء النهائي عليها.
نحن نعيش الآن في موسم الهجرة إلى الغرب الكافر، في أزمنة الهروب من ديار من يسمون أنفسهم مسلمين إلى ديار من نسميهم الكفار، لنهرب من فتاوانا القاتلة إلى حماية قوانينهم الوضعية.
تغمدك الله أيها الطفل السوري بواسع رحمته، وقاتل الله من كان يستطيع قتل التوحش وأبقاه على قيد الحياة.
ملاحظة أخيرة: المستهدف التالي بنفس الطريقة ولنفس الأسباب سوف يكون تركيا.