محمد سليمان العنقري
تركزت تحليلات سوق النفط خلال الفترة القصيرة الماضية التي أعقبت هبوط أسعاره بحوالي 55% حول التغيُّرات التي تشهدها خارطة المنتجين، حيث يأتي النفط الصخري في مقدمة كل تحليل يُقدم من بيوت الخبرة أو المحللين المستقلين عالمياً، ويبشر الكثير منهم بأن هذا التغير بالمنتجين سيبقي الأسعار منخفضة لسنوات يختلفون في تقديرها، لكنها تتراوح في أغلبها حول ثلاثة إلى خمسة أعوام، وبالرغم من منطقية القراءة التي يقدمونها لدعم توقعاتهم والتي تتمحور حول ضعف الطلب قياساً بنمو الإنتاج ووجود فائض لا يقل عن مليوني برميل يومياً إلا أن تلك التوقعات تبقى ذات نظرة قصيرة عموماً، لأنها تأخذ العوامل الحالية وكأنها ثابتة لن تتغير، كما أن القراءات لمستقبل الطلب على أي سلعة أو منتج لا تأخذ الفترات الزمنية القصيرة كمعيار لتقييم جدوى الاستثمار ومستقبل الطلب على السلع والمنتجات.
فلو كان الطلب على النفط وأسعاره الضعيفة من بعد منتصف الثمانينيات مقياساً لمستقبله، لما توسع المنتجون بإنتاجهم ولما تحملوا ضعف الأسعار إلا لأنهم يتوقعون زيادة بالطلب والأسعار، وهو ما حدث فعلياً في الخمس عشرة سنة الأولى من القرن 21 الحالي، وهذا ما ينطبق على مجمل السلع والمنتجات عند تقييم جدواها الاقتصادية والاستثمارية عموماً، وإلا لماذا ينفق المستثمر سواء كان دولة أو شركة أمواله لزيادة الإنتاج وتحسين ظروفه إذا لم يكن هناك فائدة مرجوة من ذلك؟
فكما يتوقع زيادة الإنتاج والرقعة الجغرافية للمنتجين، فإن التفسير نفسه حدث بالمستهلكين فلم تعد الاقتصاديات المتقدمة هي قائد النمو باستهلاك الطاقة، بل كان في العقدين الأخيرين السبق للاقتصاديات الناشئة وعلى رأسها الصين التي ارتفع استهلاكها بأكثر من 200 بالمئة خلال العقود الثلاث الماضية ليصل إلى أكثر من 11 مليون برميل يومياً لتكون ثاني أكبر مستهلك عالمي بعد أميركا وأكبر مستورد حالياً للنفط بالعالم، وما زالت التقديرات تشير إلى أنها ستصبح أكبر مستهلك في غضون الخمسة عشر عاماً القادمة، أي أنها قد تتخطى حاجز 20 مليون برميل كاستهلاك يومي، خصوصاً أنها تشهد تحولاً اقتصادياً كبيراً يرفع من تأثير المستهلك المحلي باقتصادها بدلاً من بقاء الاعتماد على التصدير القائم حالياً، فعدد الطبقة الوسطى بالصين يصل إلى حوالي 500 مليون نسمة ويتوقع أن يتجاوز 800 مليون في العقدين الحالي والقادم أي أكثر من نصف عدد سكانها الذي يبلغ حالياً 1.4 مليار نسمة.
لكن النمو القوي بطلب النفط سيكون خلال الفترة القادمة من قِبل الهند التي ينمو الطلب فيها سنوياً بحوالي 4 بالمئة ويتوقع أن يتخطى في بحر العشر سنوات القادمة حاجز 7 ملايين برميل يومياً ارتفاعاً من 3.8 مليون برميل، حيث يتوقع أن يكون للهند دور القائد بأعلى معدل نمو اقتصادي سنوي عالمي ليصل إلى متوسط مستهدف عند 8 بالمئة سنوياً نظراً لاحتياجاتها التنموية الضخمة إذ توضح الكثير من التقارير أن حوالي 40 بالمئة من منازل الهند وفي مناطق الأرياف لا تصلها الكهرباء بخلاف الحاجة لنمو صناعي ضخم يُوسّع من تنافسيتها بالعالم ويوفر فرص العمل لدولة يبلغ تعداد سكانها حوالي 1.2 مليار نسمة ومع التحسن بظروف المعيشة سيرتفع استهلاك المواطن الهندي من الطاقة بنسب عالية وبفترة تُعد قصيرة مما يعني أن الهند لوحدها ستتعدى بنمو استهلاكها الفائض الموجود بالأسواق حالياً.. وسيكون لنمو الاستهلاك بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا دور كبير بزيادة الطلب على النفط مما سيعزز بنسبة كبيرة من الوصول لحجم استهلاك عالمي يصل إلى 110 ملايين برميل يومياً في العام 2030 م، وهو ما توقعته الكثير من الدراسات والأبحاث العالمية قبل سنوات، بينما من الصعب أن يصل النمو بالإنتاج لهذه الأرقام دون ضخ استثمارات ضخمة، وأيضاً بقاء الأسعار عند مستويات مرتفعة تساعد على التوسع بالإنتاج، فمهما تغيرت خارطة المنتجين وأُضيف لناديهم من دول وشركات، إلا أن نادي المستهلكين يتبدّل ويتغيّر نمو الطلب فيه بوتيرة سريعة أيضاً، لكن سيكون من الثابت أن الوصول لاستهلاك كبير بتلك الدول لن يعقبه تراجع مؤثر، فالدول ستبقى مضطرة لزيادة الطلب على النفط، لأنه سيكون انعكاساً طبيعياً لتحسُّن اقتصادياتها وظروف المعيشة فيها.
النفط سيبقى سلعة أساسية بالاقتصاد العالمي ومجالات الاستفادة منه تتوسع كثيراً بمجالات صناعية عديدة من خلال التنوع الهائل بمشتقاته، مما يعني أن الطلب سينمو بشكل كبير وسيكون للاقتصاديات الناشئة التأثير الأكبر بنمو الطلب عليه والذي سيلعب دوراً كبيراً بعودة الأسعار للارتفاع من جديد، فالأوضاع الاقتصادية العالمية تُعد طبيعية بتراجع النمو حالياً، نظراً للتحول من سياسات نقدية مرنة بأميركا منذ انفجار الأزمة المالية العالمية قبل حوالي سبعة أعوام، وكذلك رغبة الصين بتعظيم دور المستهلك باقتصادها، وأيضاً الانتقال بمنطقة اليورو من معالجة أزماتها إلى البدء برحلة نمو اقتصادي جيد بخلاف النمو الذي يتوقع أن يكون ضخماً باقتصادات الدول الناشئة، مما يعني أنه كما ينظر حالياً للأسعار والمنتجين وسلوكهم، فإن اكتمال الصورة لن يتم إلا بقراءة عميقة لواقع نادي المستهلكين والتبدلات المتسارعة فيه وقياس ذلك على مستقبل الأسعار الذي تشير جل التوقعات إلى أنه سيستقر لفترات طويلة فوق 100 دولار من جديد بعد عقد من الآن، أو ما يزيد عليه بقليل.