محمد سليمان العنقري
خريطة العالم الاقتصادية والاستثمارية تغيّرت كثيرًا جغرافيًا ولن تعود كما كانت بالسابق فبعد قرار الفيدرالي الأمريكي بتثبيت أسعار الفائدة دون تغيير عن مستوياتها المتدنية منذ سنوات بات واضحًا عمق التعقيدات الاقتصادية العالمية وأن حجم المواجهة بين الاقتصاديات الناشئة والمتقدمة بدأ يتسع فلم يكن القرار أيًا كان اتجاهه مهمًا بقدر ما يرافقه من توضيحات ببيان الفيدرالي
حول أسباب اتخاذه سواء إبقاء سعر الفائدة دون تغيير أو رفعها لأن ما يصدر من حالة الاقتصاد الأمريكي الأكبر عالميًا هو الأهم لما يوضحه من معالم المرحلة القادمة فاهتمام وسائل الإعلام بأسعار الفائدة طغى على عوامل مهمة قادمة كشفها بيان الفيدرالي وتصريحات رئيسته «بيلين» التي جاءت مثيرة للقلق حول عدم اليقين من استمرار تعافي الاقتصاد الأمريكي بوتيرة صحية وطبيعية مما شكك المستثمرين بأسواق المال بأن النمو لن يكون مضمونًا وأن عودة الركود الاقتصادي بأمريكا واردة
فما رافق قرار تثبيت سعر الفائدة من معلومات بينت أن اقتصاد أمريكا بعد سنوات من التيسير الكمي والإصلاحات الاقتصادية ما زال غير قادر على تحول بالسياسة النقدية من مرنة إلى متشددة وأن سوق العمل الذي يعتبر أهم معيار لقرارات الفيدرالي منذ سنوات مازال أيضًا ضعيفًا بوتيرة نمو الوظائف وحسب تصريحات رئيسة الفيدرالي الأمريكي فإنها لا ترى زخمًا قويًا بتوليد الوظائف قريبًا بل قد يأخذ وقتًا يصل إلى ثلاثة أعوام قادمة وبجانب آخر فإن عدم نمو الأجور يعد مصدر قلق أسهم بتثبيت أسعار الفائدة حيث إن الوصول لتضخم مستهدف عند 2 في المائة لن يتحقق إلا في عام 2018 م يضاف لكل ذلك عامل رئيس مهم تسبب (بتأجيل رفع أسعار الفائدة) ذكر ببيان وتصريحات مسؤولي الفيدرالي الأمريكي يتمثل بعدم استقرار أسواق المال عالميًا والقلق القادم من تباطئ نمو الاقتصاد الصيني الثاني عالميًا. ومن خلال ربط قرار الفيدرالي بنسبة عالية بأوضاع الاقتصاد العالمي الصعبة وتحديدًا الصين يتضح عمق التأثير الذي ارتفع للاقتصاديات الناشئة بقرارات الدول الكبرى بسياساتها النقدية وعلى رأسها أمريكا بالرغم من أن دولارها هو عملة الاحتياط الأولى عالميًا، ومثل هذه التأثيرات بقرارات الاقتصاديات الكبرى الرئيسة التي تعد ناضجة وتهيمن على القرار الاقتصادي الدولي منذ عقود تظهر أن المواجهة تلوح بالأفق بينها وبين الاقتصاديات الناشئة التي تقودها الصين حيث أصبحت أكبر سوق للسلع الخام المستوردة عالميًا وكذلك ثاني اقتصاد عالمي من حيث الحجم بترتيب الدول والثالث من حيث المناطق الجغرافية بعد أمريكا ومنطقة اليورو بل إن ضعف التجارة الدولية الحالي جاء بتأثير مباشر من تراجع نمو الاقتصاد الصيني مما أثر على أسعار السلع انخفاضًا وعلى رأسها النفط الذي فقد أكثر من 50 بالمائة من أسعاره في أقل من عام.
فالعالم يشهد لأول مرة مواجهة حقيقية بين كتلتين اقتصاديتين الناشئة والمتقدمة وذلك بهدف أن تصل الاقتصاديات الناشئة لمرحلة المشاركة بالقرار الاقتصادي العالمي وليس البقاء متأثرة بما تقرره الاقتصاديات المتقدمة وخصوصًا أمريكا فالدول الناشئة تضررت بالسنوات الماضية وإلى الآن بقرارات أمريكا بسياساتها النقدية كالبرازيل وروسيا وتركيا والهند وحتى الصين وبعضها تعرضت عملاتها لانخفاضات كبيرة في فترة زمنية قصيرة مما أثر على استقرار اقتصادياتها بل تم تصدير التضخم لهم بسبب تلك السياسات مما فتح الباب واسعًا لأول مرة من بعد نشوب الأزمة المالية العالمية للحديث عن تنويع بعملات الاحتياط العالمي وتقليل دور الدولار بهذا الجانب وكذلك الاتجاه بقيادة الصين لإنشاء مؤسسات مالية دولية توازي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تهيمن عليهما أمريكا ودول أوروبا ليكونا بإدارة من الدول الناشئة بقيادة الصين ويتحرر العالم من تأثير المؤسستين الأقدم على اقتصادياتهم ولم تقف تلك المواجهة عند هذا الحد الذي بدأت ملامحها تظهر منذ إنشاء دول بريكس بل إن الصين تتجه لإنشاء بورصة للطاقة وسيتم اعتماد عملتها للتعامل فيها كونها الأسرع نموًا باستهلاكها خصوصًا أنها تتحول حاليًا لاقتصاد يعتمد أكثر على المستهلك المحلي لتقليل الاعتماد على التصدير، كما أنها تعد أكبر المستثمرين بالخارج بأكثر من تريليون دولار خصوصًا في السندات الأمريكية التي تستفيد منها بأن تعزز من حضور منتجاتها بأسواق أمريكا. فمن الواضح أن الدول الناشئة تتجه لمزيد من التكامل والشراكات التجارية فيما بينها والتحرر من تأثير الدولار عليها وسياسات أمريكا النقدية التي لم تراع مصالحها حتى تستطيع تلك الدول الاستقرار اقتصاديًا وتنفذ خططها التنموية دون تعقيدات تستورد من الخارج بل إن اتجاه دول في الشرق الأوسط كالخليجية نحو تحرير أسواقها وجذب استثمارات والتفكير بضخ جزء من احتياطياتها المستثمرة بالخارج في مشروعات تنموية جبارة يعد ملمحًا من إدراك هذه المواجهة الدولية القادمة التي لا بد أن تجعلها تتحرك بوتيرة أسرع كإنشاء البنك المركزي الخليجي وتوحيد سياساتها المالية والنقدية وزيادة الطاقة الاستيعابية باقتصادياتها وتفعيل كامل متطلبات السوق الخليجية المشتركة وتوطين التقنية ورفع مساهمة القطاع الخاص واستثمار الفرص المتاحة محليًا وعالميًا والابتعاد عمّا يسمى بالاقتصاد الريي والنهوض بدور الكوادر البشرية بالتنمية الاقتصادية فيها. قرار الفيدرالي الأمريكي بتثبيت أسعار الفائدة لم يكن عاديًا بل حمل معه التأثير القوي من وضع الاقتصاد العالمي الضبابي خصوصًا من الصين مما يدلل على أن الاستقلالية التي كان يتمتع بها الفيدرالي الأمريكي باتت من الماضي وأن عليه من الآن وصاعدًا أن ينظر للاعبين جدد بالاقتصاد العالمي وأن يضع مصالح أمريكا في وضع يأخذ بعين الاعتبار ما هو أثر أي قرار اقتصادي تتخذه دول ناشئة مؤثرة كالصين أو دول كبرى منتجة للسلع الخام كدول أوبك بقيادة السعودية بعين الاعتبار لأن الاقتصاد العالمي لم يعد كما كان وأن حصص التأثير ومراكز القوة تبدلت باتجاه غير تقليدي وخرجت من إطار التنافسية إلى المواجهة لتثبيت المصالح ومنع الانفراد بالقرار الدولي لصالح الدول الكبرى واحترام إرادة وتوجهات الدول الناشئة ورأيها بمستقبل الاقتصاد العالمي حتى يصل الجميع لتفاهمات مبنية على الشراكة وليس الانفراد بالقرارات بناء على المصالح الضيقة.