د. محمد عبدالله العوين
في 17 من ديسمبر 2010م أشعل الشاب التونسي اليائس محمد البوعزيزي النار في جسده؛ احتجاجاً على البطالة والتعسف والفقر والفاقة والبؤس الذي كان يعيشه قطاع عريض من الشعب التونسي؛ وبخاصة طبقة الشباب تحت وطأة حكم بوليسي خانق مستبد، وكأن القِدر المكتوم الذي يتقد تحته جمر لاهب ينتظر الفرصة للانفجار؛ فاشتعلت في اليوم التالي أول ثورة شعبية على نظام عسكري قمعي، وسقط النظام بعد ثلاثة أسابيع في خاتمة سريعة غير متوقعة لفيلم سينمائي!
وبدأ مسلسل الثورات يشتعل في المنطقة العربية كحالة إنفلونزا شديدة العدوى، وكأن الحالات تتشابه في العواصم العربية الخاضعة لحكام عسكر؛ فامتد اللهب إلى القاهرة ثم طرابلس ثم صنعاء ثم دمشق، ثم بغداد، وبعد سقوط زين العابدين سقط حسني مبارك ثم معمر القذافي ثم علي عبد الله صالح، وما زال بشار الأسد يقاوم بيأس ويكاد يقترب من نهايته.
والآن وبعد مرور ما يقرب من خمس سنوات من اندلاع هذه الحرائق في خمس عواصم عربية ما زال بعضها يئن تحت وطأة التدمير والقتل والتخريب والتعذيب والتشريد كما هي الحالة في سوريا على الأخص؛ هل يتسنى لنا أن نتأمّل ونتبصّر في مآلات تلك الثورات، وما نتج عنها من مكاسب ضئيلة جداً وخسائر لا يمكن أبداً تعويضها مهما طال الزمن ونسيت الأحداث؛ لأنها طالت البشر قبل الحجر، وغيّرت ديموغرافية التكوين السكاني في بعض المناطق، وأدخلت أخرى في حالة مستمرة من اندلاع نيران تكاد ألا تنطفئ إلا بعد أن يصل النظام العسكري المستبد، ومن ورائه كالحالة في سوريا إلى ألا تبقى نفس حية تنبض فيها الحياة دون أن تنزع ولا بنيان قائم عامر دون أن يهدم ويسوى بالأرض.
هل يمكن أن يكون اندلاع تلك الثورات عفوياً وبدون تخطيط ولا تهيئة ولا تنسيق؟! ربما كان الأمر كذلك كما كانت الحالة في تونس؛ لكننا لا يمكن أن نغفل أبداً عن منظمات وتنظيمات سرية ذات نزعات محلية في القطر المنتفض، أو ذات نزعات وانتماءات واستقطابات خارجية كما في مصر واليمن كانت تلك المنظمات والأحزاب تهيئ وتكوّن وتحشد وتربي وتبني كوادرها وتستمد مواردها من دول أجنبية وتتواصل مع جهات استخباراتية دولية تتربص معها اللحظة السانحة التي يمكن أن تُستغل لإيقاد فتيل اللهب في حالة التململ الاجتماعي أو السخط الاقتصادي أو النقمة على قرار سياسي؛ فتمتطي التنظيمات - أيها أسبق وأذكى - حالة الفوران والغليان الشعبي وتصعّدها إلى القمة لتقطف ثمرة ذلك الهيجان وتحرق في الطريق إلى الغاية كل ما أمامها في سبيل الوصول إلى السلطة، وهو ما حدث بأدق التفاصيل في الثورة المصرية التي أوقدتها منظمات المجتمع المدني المدعومة من استخبارات أجنبية واقتطفت ثمرتها جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتهيأ بكل كوادرها ورصيدها السياسي والفكري الطويل على مدى ثمانين عاماً للوصول إلى كرسي الحكم في مصر وفي غير مصر.
أما ماذا جنت البلدان التي اشتعل فيها حريق الخريف العربي؛ فالصورة الراهنة على الشاشات والمآلات المأساوية التي أوصل قادة تلك الانتفاضات أبناء أوطانهم إليها والحالة النفسية المؤلمة التي تنهش وجدانات من انخرطوا في هيجان حالة الإنفلونزا الثورية تقدم لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد المصائر الدامية التي وصلت إليها العواصم التي تحترق الآن بلهيب الثورات؛ فدمشق لا بل سوريا كلها لم تعد سوريا التي كانت قبل 2011م، فعلى الرغم من استبداد النظام الطائفي ودمويته ومعتقلاته وفارسيته وقماءة شعاراته وخوائها إلا أن سوريا كانت تعيش بربع روح قبل اندلاع انتفاضة الشعب التي لم تنضج بما فيه الكفاية، ثم أجهز النظام الدموي على آخر نفس ينبض، وهو الحال في صنعاء التي اشتغل فيها تنظيم الحوثي بحرفية استخباراتية مع أسياده في قم فقلب انتصار الشعب البائس على نظام الشاويش إلى انتصار فارسي غبي.
إن مآسي هذا الخريف المدمرة لم تترك حسنة واحدة يمكن أن يجنيها ثائر شريف على قمع وتسلط ودكتاتورية أنظمة حكم العسكر.