سعد البواردي
- طاهر زمخشري
- 215 صفحة من القطع المتوسط.
شاعرنا أخذنا معه سوياً نحو حقله.. حصاد عقله.. قطف لنا باقة من ورده الوجداني.. وكل ما في شعره صب، وحب، وعتب هكذا يستطيب لمن يستهويهم الغزل أن تكون أدبياتهم رومانسية حالمة تارة، وظالمة تارة أخرى.. ومن هذا صوت حياته لا بد وأن يحملنا معه الإبحار وسط أمواج التأوه والحنين مرة.. والأنين مرة ثانية.. وردة من باقة شعره لها نبرة استغفار..
يا كريم العطاء ضاقت حياتي
بذنوب قد أخرست نفثاتي
أثلمت عزمتي.. وأكْدت بخطوي
وترامت به على العثرات
لست أرى بما اقترفت وإني
سائل أن تمدني بالهبات
وأجرني.. فقد أتيت وإني
لا أطيق الإفصاح عن سيئاتي
جميل منه.. ومنا جميعاً أن يكون مدخلنا إلى الحياة، وقبل أن نودعها صوت ابتهال وإنابة وقنوط.. ما أروع أن نعترف بالخطأ وأن لا نقع فيه.
في واحته الخضراء كان النسيم يرقرق في أنفاسه شدواً.. ويرجّع ألحانه شعراً:
كيف هذا النسيم يسكب أنغاماً
يناغي بها على الليل بدراً
وعيون الدجى تراقب من يز
حف في جنحه ليكتم سراً
ويردُّ الإعصار عن مدنف عانى
ولاقى من الهجير الأمرَّا
بالتعلات كان يفرح بالأحلام
تلهو به لتقطف عمرا..
أنزعتْ كأسه من الألم الكاوي
وكان المزيج شجوا وهجرا
إنه الهيام الكاوي الذي لا يتوقف لمن أُترعتْ كأسه بالحب.
من أجمل باقات ورده تلك التي تشتم منها عبق الوطن.. وعبير السؤدد:
البطولات ورثناها قرونا
وهي تأبى لحمانا أن يهونا
وعلى الأفلاك شيدنا حصونا
وعليها الدهر قد كان أمينا
شاهداً أنا على مر الزمن
أمة التوحيد. حراس الوطن
رفاق طريقه يتذكرهم في شخصه وهو يطوي مساحة العمر بين اليباب والعذاب والصعاب بأمل قد لا يأتي:
نثرت ربيع العمر وهو شباب
وقد ضمني في راحتيه يباب
أسير لقصدي خطوة ثم أنثني
وفي الدرب بالآلام أُوصدَ بابُ
وأقرعه واليأس يُدمي أناملي
فتفتحه الآمال وهي عِذاب
وتدفعني كيما أجدُّ لغايتي
ولو رافقتني في الطريق صعاب
أربعة أبيات وجدانية رفع فيها راية الإباء.. العاتب والغاضب لمن وثق في حبها فخدعته:
وهبتكِ فوق المنى مهجتي
وزدتُ عليها سواد العيون
عساكِ تجودين لي بالرضا
فأشعلت حولي جحيم الظنون
وفي زورق من نسيج الخيال
أجدّف. والموج نار الشجون
وألقى بي البحر في لجِّه
غريقا.. فكيف عليك أهون؟
«النافذة» التي أطل منها على القمر.. إنها العنوان:
فتحت يا بدر لي في الأفق نافذة
منها تُطل بإيماء وتغريد
وأنتَ فوق مدار النجم في فلك
وليس أسمو له إلا بتنهيدي
فطبتُ نفسا بما أعطيت من ألق
أراحني من تباريحي وتسهيدي
وحط عني هموماً كنتُ أكبتها
حتى أذاب شجاها بالضنا عودي
نافذة شاعرنا الخاصة بإطلالتها على قمره الخاص خارج جاذبية سمائنا المفتوحة ليلاً ونهاراً.. حتى النوافذ ينفذ إليها البعض ويستعصي على الآخرين.. ذلك أن لكل شاعر نافذته، أو بوابته، أو قمره.. أي وجه لقمر شاعرنا وقد سمحت له النافذة برؤيتها؟
ما كنت أشكو برغم الوخز من ألم
أروح منه إلى ليلاتي السود
ولم يبال بقلب ذاب من حرق
جاشت بطرف تنزى بالعناقيد
ما عدت أكبتها، ما عدت أحبسها
فالصمت رجَّع للدنيا أناشيدي
وأطل القمر:
وطالعتني رؤاها وهي باسمة
ما بين متعثر فيها، ومنضود
فكيف لي أسكب الحبات في نغم
معزاق خفق رفاف وغريد
ما رف يستقطر الآهات من وله
إلا وحرك أشجان المعاميد..
بين حلم العمر، وعلم العمر تقاطع يوصل إلى نهاية واحدة لأن لكل شباب شيخوخة.. وأن لكل بداية نهاية:
إليه أزحف، والأيام بسمتها
قد ضاعفت ببريق الوهم أحمالي
وفي الحنايا حريق كنت أكتمه
حتى رماني الجوى منه بأهوال
أذاب فيَّ فؤادا كلما انتفضت
به المواجع أجرى ذوبه الغالي
وقد صحوت، وحلم العمر يقذف
إلى الضياع الذي قد غال آمالي
لست وحدك.. جميعنا في النهاية سواء.. المهم أن نحسن الختام.. وأن نودع عمرنا حياً لا ميتاً..
حكايته مع النافذة هذه المرة توارى قمرها.. إنه الليل الداكن الموحش بسكونه:
يا ليل كم قد شكا فيك المصابونا
وكم تعزى بنحواك المحبونا
يا ليل كم فيكَ للعشاق أروقة
فيها يصفق بالأشواق مفتونا
ألقى به الهجر في أحضان داجية
كيما يذيب غثاء الصمت محزونا
وأرى على الناس سرا في حشاشته
وفي حواشيه كان السر مكنونا
لا أظن.. ألَمْ نقرأ لشاعرنا القديم قوله:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
لعله يا راحلنا الكريم، كلام الليل يمحوه النهار.. وبالعكس أيضاً ولكن بزمن مؤقت قد لا يطول.. كثيرة من محطات السفر مر بها قطار الرحلة دون توقف يقصر المساحة، وبُعد المساحة.. وعجز الاستراحة عن استيعاب كل عناوين شاعر العشق والحب..:
«حنانيك» أبيات تشدك إليها عناوينها ومضامينها:
حنانيك ليل البعد قصَّره الصبر
وإن طال حسبي أن في مهجتي حجر
يضيء حياتي وقده ولهيبه
ففيم التّشكي والتّبهي به فخر
وان سحابات التباعد بيننا
ستمطر أفراحا متى طلع الفجر
تباركنا الآمال فيها يفرحه
نفيء إليها، والظلال لنا زهر
ومع هذا يظل شاعرنا قلقاً من أن يطول به النوى فيتحدث ويبوح بصبابته.. وينزف لك جرحه.. الكتمان قفل لفم الإنسان هذا ما يريد أن يقوله.. ومن يقظة أحلامه الساخنة يأخذنا جميعاً إلى أحلام يقظته اللاهبة:
تنام العيون وفي مقلتي
تنام على حرفها حيرتي
ويصحو الأسى في رفيف الوجيب
فتصرخ في مهجتي لوعتي
ولم أشك نار الهوى والأسى
ولكن شكواي من غربتي
إنها الأكثر وقعاً وإيلاماً على النفس..
غريب وحولي من أسرتي
عديد، وأشعر بالوحدة
إنها غربة إنسان، وزمان، ومكان.. تكفي واحدة للوجع الحسي والنفسي..
«كهوف الظلام» موحشة لا شك..:
في كهوف الظلام كم من حيارى
يرقبون الصباح وهو بعيد
كم قلوب بها المراجل تغلي
والحنايا مجامر ووقود
لا تسلني ما خطبها.. ما دهاها؟
عالم السر بالبرايا ودود
يا ضباب الأوهام انا استرحنا
لظلال بها نزف بنود
في دياجي بها السكون ترامى
وعلى جنحه مطارف سود
ويكشف لنا عن كُنه كهفه المظلم:
لا تقولوا الظلام، فالحكمة الر
عناء نفس بها تجيش الحقود
أو تقولوا السكون فالصمت أحلى
من وجوم به يعيش الكنود
والصباح الممراح في كل عين
شاقنا من نقائها التغريد
له لقاء حار هو في انتظاره:
أنا في انتظارك فوق جفني المسهد
طيف يذكرني بقرب الموعد
تتراقص الأحلام حول وسائدي
وأنا أراقب بينها فجر الغد
حسناء تلعب بالعقول بمقلة
نجلاء مُشرعة لرد المعتدي
الغمد أجفان لها لكننا
نرجو السلامة من صقيل مغمد
لا أدري الغلبة لمن..؟
سلاح العيون.. أم السيف المغمد.. أم السلام المتبادل.. أسئلة هائمة..
صفحات، وصفحات مليئة إلى درجة التخمة بقصائد الوجد والغرام والهيام لشاعرنا الراحل طاهر زمخشري غالبتني الحيرة وقد....
تكاثرت الظباء على خراش
فما يدري خراش ما يصيد
إشكالية الاختيار أنها نفس النَّفس.. والإيقاع.. والمحتوى.. تكاد تكون قصيدة مجزأة وطويلة تفصلها عن بعضها مجرد نقاط.. ومع هذا تظل المحاولة قائمة:
تتحدث عن الصدفة:
ما علينا فقد بلغنا منانا
وملأنا سمح الدنى آذانا
والتقينا والبدر يرنو إلينا
وبأقواف نوره قد طوانا
وعيون الديجور تتلو علينا
صفحة تحمل الفتون بيانا
كل سطر بالنور يسكب شدوا
ما له غير صمتنا آذانا
الهوى العف كان أكرم ساق
طاف بالصفو بيننا وسقانا
مشهد من مشاهد الصدفة كما أسماها شاعرنا لأنها وليدة اللحظة:
«ميلاد حب»، «الحب الوليد»، «توأمان» نتجاورهما.. كي نقف عند الصورة:
يا رفيق الهوى حنانيك إني
في عيون المها أخاف التحدي
فأدِرْ لحظها إلى الوجهة الأخرى
ودعني أعِشْ بأحضان سهدي
فاللحاظ المفردات التعابير
تثير القديم من نار وجدي
وأنا ها هنا أعيش مع الأ
حلام، والحب بين جزر، ومد
كثيرة تلك القصائد الوجدانية الرائعة التي رسمتها ريشة شاعرنا الراحل طاهر زمخشري عبر ديوانه «نافذة على القمر» والتي نفدَ استعراضها.. أكتفي بهذه المقطوعة.. «ضدان»:
حنانيك يا دهري فحسبي مكايد
وحسبي اني في هواها أكابد
تغربت عن أهلي، وقلت: لعلها
إلى الأمل المرجو في الدرب رائد
إذا بي كما العشواء أمشي لغاية
بخطو يجوب التيه والهم راصد
وافتح عيني لا أرى غير عتمة
وقد كحلتها بالسهاد المراود
طويت بقلبي من مجامر صبوتي
وفي طرفي المجروح يومض شاهد
رغم ويلاته كان يضحك إيماناً منه بأن الصبر مفتاح الفرج.. ولكن معاناة القلب كما معاناة العمر يقضان مضجع من يكابد.. ومن لا يقدر على التحمُّل لأن الحمل ثقيل تنوء به كواهل الرجال..
عجبت لها.. ضدان تدعو إلى الهوى
ويقتل من تدعوه طبع معاند
فيا شر ما لاقيت من عاصف الهوى
على يد من أطوي إليه الفدافد
ماذا عن الطائر الذي رسائل حبه في فرح؟!
وطائر شوقي لم يعد يقطع المدى
بغير أنين عانقته الوسائد
له انطع الآماد والصبر مركب
وخفاقي الرفاف في الصدر رائد
كان شاعرا رائداً لخفاق الرفاف.. أشبع الوجدان ولهاً.. وحنيناً.. وشكوى.. وجَلداً.. كان فارس أحلام لا يكل ولا يمل.. يرحمه الله.