سعد البواردي
محمد عابس
مائة صفحة من القطع الصغير
بين نقيضين.. اللذة والموت فتح لنا شاعرنا نافذة نطل منها على تساؤلات حياة مليئة بالإثارة.. والاستثارة.. لعلها.. ولعله يجلو بها ما علق في الأذهان من حيرة.. أو لنقل من خبرة أعطته القناعة بطرحها كقضية تجمع بين الضدين.. الاستشعار بالرهبة.. والشعور بالرغبة.
مع شاعرنا المبتسم دائماً.. تأتي بداياته مسافات شعرية متفاوتة وموجزة ثرية بدلالاتها.. إنه يقول عن مسافاته وقد تحركت قافية قافلته في هدوء..
لا تمطري الهموم في مدينتي
فما لها خدك سوى أرجوحة تلهو بها
والناي حولها يعيرها كآبة السوداء
إنها المدينة بصخبها وارتباك حركتها يا عزيزي.. ألم تتحدث عن أرجوحتها اللاهية التي لا تستقر على حال؟!
وعن الاحتفالية تطلع إلى صغيرته وما زالت تحبو:
صغيرتي تحبو إلى نورٍ عصا مشكاته
يُشع في الأنحاء
يسأل الغصون عن أوراقها
الجدار عن مرارة الجوار
صغيرته بعيدة عن مناجاته ومناداته تلهو على ضوء شمعة تداعب مقلتيها غير آبهة بما يقول وقد شغلتها عنه ثيابها... وأصحابها.. ونور شباكها.. إنها تعيش حلم طفولته لم يستيقظ بعد.. وإن كانت بداياته تأخذها إلى المواجهة.
صغيرتي تجري إلى الآمال في الصبح المهدهد
والكراريس استفاقت لشمائل المعلمات في براءة عن الجمال والحياة
تجاوزت مرحلة الحبو إلى رحلة الجري مدفوعة بأمل وليد على وقع صوت الحرباء
لا أراك تمنحين ليلك الحزين
لون تسريحات باريس السنا. ورغبة الهواة
وباستذكار لا يخلو من استكبار واستذكار تصرخ حرباؤها:
تباً لهذا الثلج هل تهوى العصافير الرماة؟
الطفلة عصفورة تزقزق أغصان البراءة والحلم.. إلا أن رماة الحياة يفزعونها ويوجعونها بعد أن تكبر.. نماذج لمسافاته تحمل عناوين التأزم، والصدى، والتحول، والموقف.. وتنتهي بغربة الحياة الموحشة:
أنا عن الدنيا تغيب طفولتي
ولها أساطيل الحداء..
يكفي أسطول واحد.. الجسد النابض الصغير لا يقوى على التحمّل في رحلة سفر طويلة وحزينة..
قراءة في ملفات القدس (عنوان جديد لمأساة قديمة.. اجتزئ منه هذا المقطع:
أين يا طعم الصباح اليعربي
أين يا لحن المساءات الأبي
إين ضيعنا البراعة؟
كيف كسرنا اليراعة؟!
لملموا الأحزان في نبض الشوارع
وانصبوا الميزان في ساح الجوامع
ليس بعد اليوم تجدينا المدامع
من يريد الزهو للأوطان من منا يبايع؟
امنحوا للعيش معنى.. إنها القدس تموت
صوت يسكنه وجع الضعف، يصرخ.. يستصرخ.. اليراعة فيه أي (اليراع) مكسور.. والجناح مهصور.. والأحزان تستعصي لملمتها.. والدموع تسيل رخيصة من دخان الهزيمة.. القدس ضاعت يا شاعرنا.. إن لم أقل بيعت.. إنها تموت مختنقة بدخان الانكسار في زمن الضياع اليعربي!
كثيرة ومثيرة مشاهد شاعرنا المتجلي محمد عابس، غرف تضيء للمطر لحظة عشق ووصل من ثدي الزمن.. ومشهد جديد لسحابة حطت على الأرض بمائها.. الناس نيام.. السبات يطبق على أجفان المدينة غير آبهة بقطر الحياة ومطره وقد استغرقها الحذر... لا معنى لربيع في عمر خريف لا يتغيّر
وعندما غنى لكم نمتم!
أيودع الحياة في القلوب الميتة؟
حتى الغرف.. ومصابيحها الباهتة لم عد ترى الصباح.. آثرت الاعتزال لأن مهمتها دون جدوى..
ومن الكآبة السوداء إلى رحابة الأفق المشع بروح الفأل.. ماذا تغيّر..؟ إنها أيضاً مدينة.. ربما وجه آخر.. له ملامح تتقاطع فيها الصور فما تدري بأيها تأخذ.. ولأنها تعطي:
العشق في مدينتي أنشودة الضياء
والعشق في مدينتي أكذوبة النساء
وفي مدينتي تغرد الصور
تدور في المساء والقمر
تصيح بالقريب وتمنح الغريب
حتى الطيور تماطلها المدينة فما تصل إلى أوكارها.. حبورها مسروق.. والشمس يملها الشروق.. رصيفها يولول وعامها خريف.. إنه يحبها ولا يحبها.. يخاف منها وعليها لأنها مدينته التي تغيّرت.. ارتفعت إلى أسفل إلا إلى الأعلى كما عبّر عن ذلك شاعرنا القديم.. فيا له من عمل صالح يرفعه الله إلى أسفل!
نتجاوز سوياً حكاية الصبية التي أورق الشيخ على سماع صوتها.. فذبلت على وقع خريف الواقع.. ومثلها ألوان.. و يجتذبنا التاريخ وتساؤلات شاعرنا.. ماذا قال عنه؟
ذاهل في الصمت:
رجلاي امتطت بي سهم الخوف إلى غير مكان
وأنا أحمل قدماً وتواريخ سؤال
هل لقلب النوم مفتاح تغيّر الوقت؟
هل لصحو الشمس شباك منام الخد؟
هل سيبني الحرف سطراً ترتوي منه الجذور؟
هل يموت الطفل فينا ينزع الضوء المبينا؟
تساؤلات أربعة.. النوم يا عزيزي موت وعي قبره محفور داخل الحس والوعي المباشر.. ما يلبث أن يستعيد ذاكرته..
أما الشمس فإنها تخترق الشبابيك.. ونوافذ الأمكنة والأزمنة.. إلا نافذة الحركة لمن يستمرئ الظلام موطناً لها..
أما حكاية الحرف.. فإن صوت صامت مقروء.. ومستفز حين يطرق بوابة العقل.. واليقين.. والإرادة الحية..
أما الطفل.. والموت والحياة فإنها حكاية صراع أزلي النهاية فيه لمن يكسب الجولة عملاً.. وإنجازاً.. وقدرة على صناعة التاريخ.. الحياة عطاء.. والموت خمول وانكفاء..
أبيات ثلاثة ترسم صورة شهقة بوحه:
ضاربات اضلع في الرمل تستقصي الجذور
سابحات اعيني في الحقل تستجدي البذور
ربما ساقاي تحملني لأشرب من شرايين النخيل
جميلة تلك الخواطر الشاعرة.. وددت لو أنه طعم بدلاً من شرب شرايين النخيل.. النخيل مذاقها وأشواقها وأسواقها التمر ليته قال:
ربما ساقاي تحملني لأحلم من تميرات النخيل..
شاعرنا التصاقه بالشارع أكثر وأكثر.. فما إن يبرح شارعاً بملامحه وطيوفه حتى يدلنا إلى شارع آخر بأخيلته وحركته ومعه الحق.. الشارع خشبة حياة متحركة فصولها مشاهد وشواهد بشر.. متفرجون ومهرجون إنها المسرح المتحرك عبر الشارع هكذا رسمه الشاعر على لوحة شعره..
ندع أحلام الشيخوخة لمن فاتهم ركب الشباب.. إنهم يجترون ماضينا من أعمارهم محكوم عليه بالنهاية.. المهم أن نستغرق أحلام الطفولة والرجولة وعياً وإدراكاً وتصحيحاً لمسارها كي لا نزل ولا نضل..
لأن شاعرنا محمد عباس وما هو بالعابس يخشى على الشيء لأنه يحبه.. ويخشى من الشيء لأنه يخافه.. يحب الأمل ويخشى الألم أخذنا معه في تطواف لذيذ عبر ديوانه (ثلاثية اللذة والموت) تسارعت لوحاته.. وتداعت تخوفاته.. ومن فينا لا يأنس للرغبة.. ولا يخشى الرهبة جاءت لوحاته مشرقة تارة وشارقة أخرى.. هكذا ينطق القلم بأمله وألمه.. فعبر لوحاته مع الرمل والطيف.
والهجير والعشق، والدفء، والظلام والماضي والطير والفجر أشبه بأغنيات يعزفها وتره لحظة احتضان تارة.. وانتظار أخرى.. إنه عاشق حياة.. والعاشق متيم تداعت أمامه الصور مختلطة مختلفة الألوان.
هذه بعض فضاءاته:
من أنتِ يا حبيبتي كي تمطري الصحراء بالحور؟
من أنت من؟ أحنة.. أم بسمة؟ يذوب في اشتعالها القمر؟
من أنتِ من؟ أفتنة أم وجهة يتوه في ارتحالها السفر؟
أم ضحكة.. أهزوجة يحار في مقامتها الوتر؟
إنها كل هذه الأشياء.. حلم مرتقب أم علم معاش لأنها ساحل تمرغت على رماله السهر كما قال.. لعشق شاعرنا حالات:
واتيتك يوماً بلا معرفة
أودع صمتي على الأعلقة
أبعثر في الكون كم حالة
تمنت وفي العجزان تسعفه
واسأل عن رغبة جمدت
وما قط كانت سوى منصفة
يسابقها الحلم في سعيها
لتأريخ عشق مع الأرغفة
أنا يا صديقي بلا قطرة
قراح الماء كفاي لن تغرفه
إنه كمن يملك ولا يملك لأن حدود الاستطاعة تواجه بصدود الطاعة..
هذه المرة جاءت رسالة حية لبنانية قانانية مكتوبة بالدم:
لبنان يبقى وتفنى النفس والنشب
والنصر يأتي إذا ما اشتدت الكرب
(قانا) استفاقت على الأحزان ثانية
ما التم جرح وصوت الموت ينتحب
التم يعني بها التأم ضرورة شعر..
فداؤك الروح يا لبنان ما لقيت
فداؤك الدمع والأشلاء والغضب
هنا على ساحل التاريخ أشرعة
هناك شمس تمنى وصلها النسب
لا بأس (قانا) ففجر النصر موعدنا
أطفالنا سادة.. أبطالها نجب..
هذا عزاء.. والعزاء لا يكفي أمام جبروت الظلم.. وانهار الدم..
أخيراً مع أغنية العيد إن كان لنا عيد يستحق أغنية وإنه لكذلك:
للعيد أغنية حبلى بآهات
وطلة للملأ تزهو بميقات
لمحتها في عيون الطفل لاهية
كمهرة من دروب الريح مهداة
وقصة في جبين الكهل باقية
كليلة في ربيع العمر ممضات
ويسترسل قائلاً:
سماحة العيد أم القلب قبلتها
مطوعاً من رياح المجد صهوات
سألتها العيد.. قالت: جرَّ زينته
وشع في الكون أنوار ورايات
العيد إن رابني في عشقه ملل
يعود من قابله في دفء نهداتي
وتستبين صور العيد الذي نغني له جميعاً:
رويتها فرحة يشتاق صهوتها
سلالة الهدي من نبع الحضارات
ويتساءل أخيراً ونتساءل معه عن عيد منقوص لا تتوفر له أهم خصائصه:
العيد خارطة للحب شامخة
حدودها القلب والإحساس بالذات
وعالم من معاني العدل دولته
يروض الظلم في طغيانه العاتي
آتيك يا عيد والقبطان ذاكرتي
سفينتي الحلم والإصرار مرساتي
العيد حب.. وعدل.. ورحمة.. وعمل ومشاركة وبناء.. ومجتمع فاضل... وإلا لقلنا ما قاله المتنبي متسائلاً:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد..
شكراً لشاعرنا ورفيق رحلتنا؟