سعد البواردي
- وجه لم يقرأه أحد
- سلوى أبو مدين
- 127 صفحة من القطع المتوسط
ولهذا السبب قرأته لنا شاعرتنا سلوى تعريفاً بملامحه.. وخيوطه. وخطوطه الغائبة عن النظرة المعتادة والعادية.
الحلم حين يترهل ويشيخ تتعرى أوراقه وتتناثر في مهب عاصفة اليأس. وبؤس.. فمن جناحها المضيء.. إلى تلك القصاصة المنزوعة من بقايا الذاكرة تذكرنا بصيف وشتاء يتصارع فيه الربيع بقسوة الصقيع.
المرأة الغربية تنفض قهقهتها مرة في السنة كشجرة
تملأ صباحها بظلال المارة المغبّرة. وظمئهم المحترق
وما يلبث جناحها المضيء المعقود بزهر الليمون أن يتهاوى على وقع مثقل الأحلام المكدسة
هناك حيث المطر بصمته الأزرق مرقد الوهم
شمعة شبه باكية هدها مبلل الحلم..
الحلم المهترئ.. الدمع المر. وانهزام الجرح
وشعار مأساة أسدل على آخر مشهد نهايته مرايا ذاكرة مثقوبة.. وشبح دهشة لزائر موغل في التعب.. وملامح لصورة ضبابية عمدته شاعرتنا الإبحار في غموضها كشف لزواياها المعتمة.. وما برعت في بحر قراءتها تستكشف بعض ملامح وجهها المستتر.
وذات خوف.. للوجه الذي لم نقرأه.. وقرأته شاعرتنا بحسها وبحدسها:
سحابة تكنس كل صباح كهولتها
خطواتها متهدجة..
رائحة الحلم تعبأ في القوارير وتباع في موانئ الصمت..
ولكن هل من مشتري لرائحة حلم ميت يسكن قبره؟!
تحت ليل مزيف حار ينفض رماده
يلمس تجاعيد الليل. يحشو فمه بالصراخ
يذرف دموعه الجافة
لماذا كل هذا لأن الغربة تلفه من كل جانب.. قميصه من حياكة الشتاء.. لا معالم له.. بل لا عوالم له أكثر من همهمات مسافة ملّها الريح.. وستائر خذلها الزمن.. ونجمة يتيمة مسربلة بفصول الضجر.
ولشجرة العيد ملامح لا تفرح.. وإنما تجرح..
شجرة العيد الغافية بلا أجراس.. بلا زينة
بقايا لوحة شاحبة.. عيد بلا شجرة.
شجرة بلا ألوان.. بطاقات جديدة ودموع جديدة
أي عيد لا يأتي بالفرحة ليس بعيد.. إنه بعيد عن ذاكرة الفرح.. كيف لمن عضته المأساة بنابها أن يفرح؟!
ثمة جليد من نار.. وسعال متقطع.
أقدام حافية.. ورغبات صامتة فوق كفي
ليل. وشموع. وبقايا دموع بالألوان:
لسان حالها يصرخ:
عيد بأية حال جئت يا عيد؟!
ومن بؤس العيد.. تأخذنا إلى بأس القسوة في أكثر من ملمح مأساوي.
طفولة تعبث بالألوان.. يدان متسختان
وجه مطلي برائحة الشمس..
صندوق خشبي يرسل نحيباً صامتاً..
هذا ملمح.. وآخر:
الثامنة بكاء.. موعد مع الشقاء
عُلب الألوان تئن في أحشاء الصقيع
من ذلك المعطف الصغير يفترش المكان
يسكنه خوف.. يلفه دخان.. وضباب.. ورمال. وقلوب راحلة.. ومن حوله:
أحذية البسطاء.. وأحذية الأغنياء تصعد وتهبط
يتأبط حلمه كغيمة مسافرة. ضارباً الأسفلت
مردداً نشيد الانكسار..
وجه تماثله وجوه ووجوه تملأ الدنيا كمداً.. وضياعاً في مهب ريح الذاكرة المتنكرة لحق المعذبين في الأرض.
أتجاوز بعضا من قصائدها التي تضج بالشكوى بحثاً عن بسمة تورق نبتة حب.. وزهرة أمل في عالم تسكنه الفجيعة والوجيعة.
لعلي ألقى.!.. وفشلت.. بحثت بين ثنايا الكلمات.. وتحت العناوين.. وجدت المأساة تطل فاغرة فاها..فمه تداعيات مساء خجول إلى آخر ورقة التوت إلى خذلان.. عناوين ومضامين خذلت أمنيتي لأن شاعرتنا آثرت أن تكتب للوجه الآخر عن الوجه الآخر الذي لم يقرأه أحد.. ولا أحد يعنيه همه.. ولا غمه.. ولا حرارة ومرارة ألمه.. وكان علي ألا أفوت على نفسي تلك الحروف التي تتوسد الثلج علها تخفف شيئاً من سخونة النفس.. وما أخالها فاعلة..
خطواتي تعزف على أوجاع المحرومين في آخر الليل
الشوارع الباردة.. الأشجار العارية.. الأمطار الثانية
الفراشات الشاحبة
مفردات مثقلة بالرعشة والخوف تدفع إلى المتاهات والتأوهات.. تقتص من الحلم. وتلف الكلمات داخل قمصان الأسى.,.
يا شاعرتنا سلوى.. أين السلوى من كل هذا.. حتى المطر في وجهه الآخر له نشيج؟! يبكي على الطفولة.. وأمها:
خلف نافذة الماضي وجه الطفولة شاحب
يتبع صندوقاً يحمله عدد من الأفراد يمتصون الهدوء
يعبثون بتراب الأرض على الرصيف المجاور
عجوز تختلس اللحظات الصامتة.
تتوكأ على عصا الانتظار وكأن الموكب يعنيها
عندما ينقشع الضباب تتلاشى الأصوات
لأن أماني الصبية نامت فوق عتبة الدار بوجه طفولتها المعذب بعد أن ملأت جيوب غيرها بحبات المطر في عيد لا يعرف عن عنوانه شيئاً.
ومن عيدها اليتيم تطبع خطواتها المكدودة فوق الرمال المتحركة على أطراف المدينة:
تلك المدينة تؤرجحني كورقة خريف سقطت من غصن الوقت
ثمة مدينة حاكتها الأساطير ترسم المطر بقهقهتها
تذكرني بوجه غارق في الصمت تنتزع عمق الحلم..
ماذا أبقيت للحلم يا شاعرتنا.. شيئاً من الرحمة كي لا نقنط.كل مواصفات المأساة تطل برأسها.. قهوة بلا مذاق.. قلق نفسي.. غربة مساء.. بكاء سماء. وشحابة نجوم حتى الوحدة من الأجنحة
لم يبق سوى غيم ينقر بدموع البنفسج
فوق مفردات وجوهنا..!
تتحدث عن الطقس الآخر.. لا شيء فيه يترك متنفساً.. غباره يحجب الأفق إلى درجة الاختناق.. لن نخوض فيه مكتفين فيه بغبار طقسنا الترابي الذي يحجب عنا ضوء الشمس وبريق النجوم.
أتجاوز بحذر أمنيات مصادرة تحت الحراسة داخل سجن أسود جدرانه قاسية لا شيء فيه سوى شهقة دمع تطرق نوافذه الموصدة على وقع كابوس متكرر لايكف عن الهذيان.. حتى أورنينا وبائع ا لهدايا صاحب الشعر الأبيض.. والصور القديمة.. لم تعد تشبع فضولنا ولا تمنحنا فرحة لحظة في ظل صمت ثقيل يقود إلى المجهول.. مع الشعر المعذب الذي جفت له شفاهنا ونحن نعبر جادة الآلام لاح لنا عنوان جديد علّه يبل الظمأ.. إنه فنجان قهوة..
هذه أوقات الفرح
وها هو فنجان القهوة الفاهم
يستحم من أعاصير نفسي المتأججة بالوهن..
ويبدو أن فنجان قهوتها متمرد على الشفاه.. مستعصي على الفم
قهوة تبعث رائحتها من وجهه المرتبك
خلف غيمة بيضاء
فنجان قهوة مع سيدتي يؤجج رغبة اللقاء
بين رائحة ممزوجة بصفحة العبث والمرح..
لم نذق طعم قهوة.. رائحتها تكفي.. تماماً كرائحة اللحم لجائع.. إنه الحرمان لنا ولشاعرتنا التي اختارت عن قصد طعم العذاب على العذوبة.
«وجه لم يقرأ أحد.. حيث العنوان للديوان».
من خلف نافذتي الصغيرة في ذاك المساء الشتوي الهادئ
كنت أرقب بيته المظلم.. وحركته التي لا تتوقف..
فتارة يقفز في الهواء.. وأخرى يقوم بحركات بهلوانية
يرقص.. ويغني. يقهقه أحياناً.. يخاطب نفسه
هل هو مسّ من الجنون أصاب صاحب البيت المعتم الذي تسكن العناكب جدرانه.. وزجاجه المتصدع؟! مجرد سؤال..
هو شخص سوداوي النظرة.. زوجته تركته واتخذت ملاذاً آخر بعيداً عنه.. يقتات ضجره.. وفجأة:
سمعت ضحكة تملأ المكان.. يركض من هجرته.. يلوح بيديه..
شاعرتنا بفكرتها هي التي سمعت وليست زوجة.. فتحت نافذتها سعيدة مشاركة في تلك السعادة اليتيمة.. اقتربت منه أكثر وأكثر تطلعت إلى قسمات وجهه الهادئة المخضبة بالدموع.. فطن إليها توارى عن عينيها خلف ستائر غرفته الرثة.. كان ذلك المشهد الخاطف بداية النهاية لرؤيته.. ولسرحياته.
على هذا المنهج الميلودرامي تتلاحق المشاهد.. من موعد مع الخريف.. إلى وعود في الفضاء.. إلى أهازيج الوجع.. إلى حقيبة آخر المساء.
وصولاً إلى حلم خلف القضبان.. ونهاية بناءات تحت الركام تلمس الدموع.. والآهات.. والرماد.. والخريف.. طافية على السطح.. وقبل نهاية التطواف نتوقف جميعاً مع محطتنا الأخيرة لرحلتنا مع شاعرتنا سلوى أبو مدين في ديوانها.. وجه لم يقرأه أحد..
«جميعنا نرسم وجوهنا.. أجتزئ من المقطوعة بعض مقاطع.
كما في الصور معكوسة نرسم دوائر حلزونية في مستنقع ماء عكر
نسكب بقايانا.. وما يتخللها في التراب..
في حين لم نعد نرى ملامح وجوهنا
التي اختفت كغيمة.. خلف أمطار قانية
كل وجوهنا جهضت ما تبقى من ألوانها
واحتفت بمفردة واحدة محفورة قسراً
كلما لمحنا صغاراً يعبثون بكرات الثلج الشاحب.
وسط دموعنا الضبابية.. ويحملون في وجوههم
التي امتزجت في ملامحنا قناديل مكسورة.!
يا شاعرتنا سلوى.. ومن أخفى تلك الملامح؟! ومن كسر القناديل؟.. ألسنا نحن الفاعل.. والمفاعل؟!