سعد البواردي
135 صفحة من القطع المتوسط
د. عبدالرحمن بن إبراهيم العتل
خفق كلماته يفضي إلى نبضات قلبه.. ونبضات قلبه توصل إلى رعشات حبه.. هكذا تتداخل الأحاسيس وتملي شعرها ومشاعرها.. تارة هامسة.. وأخرى ملامسة للبوح.. وثالثة نازفة بالجرح والتأوهات..
شاعرنا العتل اختار لكلمات ديوانه أن تأتي خافقة.. لننتظر ونرى..
التداعيات كانت البداية مطرزة برداء ليلته الحالمة.. إنه يقول:
وحين التقينا.. وكان البياض يطرّز ليلتنا الحالمة.
تبسم فينا صباح جديد يلملم أشتاتنا المرسلة.
وها نحن في دارنا المفعمة تطوف بنا نظرة نظرتان
ثلاث وأخرى زهت مسلمة.
نظرات ست داخل الدار أحسبها مربكة للعينين تدعو إلى الخوف.. الحب يا عزيزي بدايته نظرة لا داعي للإغراق وإلا تحول إلى هاجس غيرة مدمرة.. غير محسوبة النتائج تفضي إلى الغرق.. ألست القائل:
سكبت عليك نهر الحب مصبوغاً بأشكالي
وقدمت الهوى لغة فأينع نبتها الغالي
تفتَّح زهره ألقاً وناعم حلم آمالي
نهر منه.. انتهى إلى ضراعة بفقد ذلك الحبيب الذي يستحق منه دموعاً بسعة نهر حبه الذي سكبه قزحياً ملوناً بعدد نظرات قلبه..
على النقيض من بداياته جاءت الحمى بمرارة ألمها وعلقمها: إنه يتألم منها.. ويتكلم بلغة الآهات والوجع:
ما كنت راحمة سهادي في الدجى
أو كنت راحمة أنيني المبهما
أصبحت في كهف الشكاية واجما
ينتابني فرط الأسى متضرما
الحمى لا تسمح لأحد بالشكوى لأنها قدر.. نحن وحدنا نحس بوقعها وواقعها المؤلم.. ثم ألا ترى يا شاعرنا إبدال مفردة متضرما بكلمة متألما؟ إنها أنسب.
يشده الحنين إلى مسقط رأسه، إلى القرية التي ولد فيها وركض بين حواريها.. وقد عاد إليها وأعاد إلى ذاكرته تواريخ أعوام خلت:
في راحتيك نثرت الهم والتعبا
وجئتك اليوم ريان الهوى طربا
وفي ثراكِ أعيش اليوم مبتهجاً
يضمني صدرك الحاني وقد رحبا
يستعيد الماضي بكل أدواته.. بيوت الطين.. الأزقة الضيقة.. الأغنام.. السواقي النخيل.. عشرون عاماً كادت أن تنسيه ذلك الماضي الجميل بجغرافيته وديموغرافيته..
عشرون عاماً وحبل الوصل منفلت
آتيك يوماً وأبقى غائباً حقبا
الحقب يا عزيزي مبالغ فيها.. قل (غائبا تعباً).
ومن القرية الوادعة بأهلها وسهلها.. إلى الذكريات من جديد:
أذكريني عندما يأتي المسا
ويطل البدر في أحلى ضياء
أكثر من مرة يذكرها بأن تذكره.. بعد أن صاغ شعره وخطه من دمه!!
إنني قد صغت شعراً من دمي
فيك يا حسناء عذب المبسم
صغته لولاك يا فاتنتي
ما بدا جماً رقيق الكلم
أنتِ من صوَّره في مهجتي
بعد ما كان حبيس الظلم
شعر مداده الدم لن يكون رقيق الكلم وإنما حريق الكلم.. وجملة «حبيس الظلم» الأنسب بعدها كان حبيساً في فمي من الاقتراب إلى درجة الجنون إلى مرحلة الاغتراب إلى الحنين إلى وطنه وأهله.. وعلى أحر من الجمر.
أحدث الآن كم أهواك يا بلدي
يا صاعداً في فضاء الحب في خلدي
نأت عنك فأسقاني البعاد أسى
ولفني الحزن في ثوب من الكمد
دوح تفيأت في أفنانه زمناً
وآنست فيه روحي راحة الجسد
وكم لثمت حصى بطحائه فرحاً
وكم مسحت على واحاته بيدي
وكم نشقت خزاماه وحرمله
والشيح يعبق حولي والتراب ندي
والطل يرسم في ثوبي نقوش هوى
موصولة بجبال الأرض كالوتد
الكثير الكثير من الذكريات.. والكثير الكثير من التجمّلات في شعره يصدق فيها قول الشاعر القديم:
كم موطن في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
إنه الوطن الذي اشتاق إليه بعد أوبة وغربة.. كان موفقاً ومتجلياً..
ومن وطنه الذي عاد إليه إلى فلذة كبده (هنادي الطفلة الصغيرة يخاطبها:
أحببت فيك براءة الأطفال
وحلاوة الأحلام والآمال
أحببت فيك الطهر يبرق وجهه
وبداءة القفزات والأقوال
بداءة.. الأنسب منها بداية.. ويسترسل:
جددت مجرى العمر بعد نضبوه
ومحوت منه مرارة الأحوال
ونبذت روح اليأس في جنباته
فبدت لي الآمال كالتمثال
التمثال يا شاعرنا جامد لا روح فيه على النقيض من الآمال المتدفقة.. الأنسب أن تقول:
فبدت لي الآمال تسعد حالي.
الملاح العاشق يأخذنا معه وقد أبحر في لج الحياة المتلاطم.. خشية الغرق..
يا موطن الرحمات ما بال السفينة تغرق؟
وشراعها مِزق تطاير والعواصف تحدق
أهوى عليها الموج سيفاً كالرواعد يبرق
الملاح يصرخ بملء فمه على مشهد الصراع الأخير.. صوت يناديه.. يرشده يدله على طوق النجاة..
يا أيها الملاح أمسك بالأماني دفتك
واصنع شراعاً للنجاة لكي تلاقى راحتك
فقد يصحو الفجر بالنسمات يغسل طلعتك
وغداً تعود الأمنيات ترف تزجي فرحتك
أشبه بالحلم تملكه في عملية إيقاظ كي يصحو من سدرته.. من غفلته.. من هفوته معافى واثق الخطى يتحدث عن وطنه:
أحبك أيها الوطن
وقلبي فيك مرتهن
شربت بأرضك التقوى
وأينع حولي الزمن
وطاب العمر وابتسمت
وجوه لفها منن
أحبك لحن وجداني
فزان اللحن والوطن
الوطن يا شاعرنا يحتاج إلى ما هو أكثر من بضعة أبيات هي أشبه بأحجيات في سردها وفي خطابها الشعري.. وجدانك.. ولحن وجدانك جاد بالقليل على غير العادة..
أخيراً مع شاعرنا الدكتور عبدالرحمن العتل في ديوانه خفق الكلمات مع مقطوعته انتظار:
شجون تحيط فؤادي الكئيب
وحيرة فكر كالسفح اللهيب
وها أنا وحدي أسير انتظار
كأني غريب أضاع الدروب
الشطر الأخير وحكاية الدروب أفضل أن تكون كالآتي:
كأني على الدرب ظل غريب..
يمضي.. ونمضي معه في انتظاره:
يمر الزمان بطيئاً عليَّ
فيأخذ كل رجاء لديَّ
أؤمل فيه ابتسام اللقاء
فألقى الرجاء شريدا شقيّ
ويتساءل مع نفسه ومع عروسة أحلامه:
لماذا غدوت حبيبي شحيحاً
وذوقت قلبي انتظاراً مريراً
وقد كان يأمل فيك المنى
تضي مع الحب درباً عسيراً
ترى يا حبيبي متى نلتقي؟
وهل حان منك لنا موعد؟
الانتظار في النهاية تحول إلى شك قاطع لا ضوء في نفقه.. ولا معرفة لفصوله وأسبابه.. وأين كان الخطأ..
أشك بأني أراك قريباً
وهذا انتظاري لكم يشهد
انتهت الرحلة..