د. فوزية البكر
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي وبكثير من الصخب حول زواج (صنف) على أنه غير متكافئ بفعل اختلاف القبائل التي اتي منها كلا المغلوبين على أمرهم العريس والعروسة!
من السهل طبعاً تفكيك هذا الادعاء بالتفوق القبلي ورفضه على أساس ديني، وهذا ما فعله الكثيرون ممن شاركوا في الصراع المذكور مما يعني أن جميعهم مسلمون مدركون لعدم وجود أسس دينية يتم الارتكاز عليها لادعاء التفوق من قبل أي طرف. لكن لماذا عجز أي أحد عن مساعدة الطرف المغلوب وإتمام الزواج الذي هو في النهاية مسؤولية الزوجين اللذين سيظلان طوال عمرهما في هذه المؤسسة وليس أي أحد ممن تنمر ووقف بعنجهية مخزية ضد إتمام الزواج؟
لماذا نقف ونعلن جميعاً أن هذه قبلية مرفوضة وما أنزل الله بها من سلطان ومع ذلك لا يجرؤ أي منا على الاقتراب من هذه الحدود (القبلية المقدسة)؟ لماذا ونحن المتعلمون الذين نحاول أن نؤسس مجتمعاً مبيناً على عطاء أفراده وقدرتهم على التأقلم داخل مؤسسات المجتمع الحديث المحكوم ومنذ أكثر من مائة سنة بحكم الدولة وليس القبيلة؟ ما الذي يجعل هذا (العرف) أقوى من سلطة الدين والدولة؟
إنه كذلك لأنه ببساطة مقبول ومدعوم من المؤسسات الحكومية والدينية عن طريق أنظمتها التي حررها أناس يؤمنون في داخلهم بمثل هذه الفروقات كحق طبيعي يجب حمايته بدعم المؤسسات للأمر إذا ما نشب الصراع؛ بمعنى أن العريس المرفوض لن يلقى أي دعم من الأجهزة المحيطة التي تعلمه كل يوم داخل مؤسساتها التعليمية والدينية أن البشر سواسية ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى لكنها لن تنصره أمام من يحاول إثبات قلة أحقيته في زواج يرغبه بل على العكس من ذلك تماماً: ستفتح أجهزة الدولة أذرعها على مصراعيها لمراعاة (القبيلة) المتظلمة وستقوم بما تعتقد انها قادرة عليه من حيث التفكيك القانوني لهذا الزواج ومنع حدوثه بحجة (عدم إثارة النزعات القبلية)! تصور: تدعم النزعات القبلية حتى تحد من هذه النزعات؟ أي فكر معكوس هذا؟
لن نصل إلى حل ونحن نضع رؤوسنا في الرمال ونردد الجمل العمومية التي تؤكد تماسكنا ووحدتنا وأمننا لأننا جميعاً نعرف أن هذه الفروقات والنعرات القبلية والمناطقية والطائفية ستذر الرمال عن رأسها في أية لحظة يتم تهديد أمننا وتظهر إلى السطح لتنهش لحومنا وتهدد أمننا الاجتماعي والوطني والأمثلة التي نعيشها اليوم هي أكثر من أن تحصى.
يجب تفكيك الأسس القانونية والنظامية التي يحتكم لها نظام القبيلة ونظام قبيلي وخضيري وشريف وغير شريف وغير ذلك من المسميات المتداولة في مختلف مناطق المملكة بوسطها وشرقها وغربها وجنوبها وشمالها وذلك من داخل الأجهزة العامة التي تتعامل مع هذه القضايا. النظام الأساسي للحكم وهو المصدر التشريعي الأساسي للدولة قام على ضمان المواطنة للجميع ولم يفرق لا على أساس القبيلة ولا اللون أو الطائفة أو العرق أو المذهب إلخ من التمايزات التي تضج بها مجتمعاتنا المحلية في مختلف مناطق المملكة.
الحجة الرئيسة لمن يتبنى ويدافع عن هذه التمايزات القبلية انها عرف. بمعنى أن الناس تعارفت عليها ومن ثم فلها قوة القانون! وهذا أيضاً منطق مريض يمكن تفكيكه بسهولة إذ لا أعتقد أنها سطوة العرف بقدر ما هي سطوة حماية هذا العرف من قبل من هم داخل النظام الذي يخدمه هذا العرف عبر مصالح وتمايزات طبقية لا يرغبون في التنازل عنها.
كثيرة جدا هي الأعراف التي وجدت في مناطق المملكة الشاسعة وتمكنت الدولة حين قررت تبني توجه مختلف أن تقضي عليها إلى الأبد. ولعل أقرب مثال على أعراف تمكنا من تغييرها هو عرف عدم تعليم المرأة، وكذلك الرق للعبيد وتزويج الصغيرات وغيره وغيره من القضايا التي كانت غير مقبولة اجتماعياً وثقافياً واعتبرت سطوتها كسطوة العرف وتم تغييرها بقوة النظام.
ما نحتاجه هو أن تراجع الممارسات النظامية داخل بعض الأجهزة الحكومية ذات العلاقة مثل إمارات المناطق ووزارة الداخلية ووزارة العدل بسحب الدعم اللوجستي لهذه الممارسات القبلية البائدة وتقديم غطاء قانوني يحمي ذوي الشأن مباشرة وهما العريسان وربما عائلاتهما إذا لزم الأمر.
لن نستطيع بالطبع القضاء على هذه المعتقدات البائدة بسرعة لكنها مسألة تعويد المجتمع على الانتماء أولا وأخيرا للدولة التي يوجد بها ونبذ التمايزات التي ما أنزل الله بها من سلطان ثم تشجيع التفكيك لها ثقافيا ونظاميا ثم دعمها تدريجيا من خلال الأجهزة المختلفة. قد يقول قائل ستبقى بعضها في اذهان بعض الناس مهما فعلنا؟ نعم سيحدث هذا وسينبري بعضهم للدفاع عنها لكن ذلك سيموت تدريجيا مثل ما حدث في كثير من القضايا المعقدة ثقافياً في هذا المجتمع المتمحور على نفسه.
الأمن الاجتماعي السطحي الذي يلوكه بعضهم عبر أحاديثهم العامة قابل للتفكك بسرعة عند أية معضلة أمنية أو مالية أو حربية تواجهنا، وبما أن الدولة أثبتت دائماً أنها من يقود التغيير الاجتماعي كما أنها المسؤولة عن تحقيق الأمن الاجتماعي لمواطنيها لذا يجب وعبر مؤسسات الدولة مأسسة القبول الثقافي والقانوني لجميع المواطنين السعوديين مهما اختلفت أصولهم القبلية عبر أنظمة صريحة تدعمهم والتقليل تدريجياً من دعم المفاهيم القبلية بتقليل أهليتها داخل النظام نفسه.