عبدالعزيز السماري
أعاد القرار الحازم للملك سلمان - حفظه الله - حول فاجعة سقوط الرافعة في مكة علامات الاستفهام من جديد حول ما يحدث في سوق المقاولات في المملكة، والذي يتميز بخصوصية محلية تستحق التوقف عندها، وتستدعي إعادة النظر في ما يحدث من غموض حول إمبراطوريات الشركات العائلية في سوق المقاولات، والتي كانت خلال العقود الماضية أشبه بالبوابة التي تمر من خلالها الأموال الطائلة ولا تعود، فالعائد على الوطن والمواطنين من أرباحها العالية يكاد لا يُذكر..؟
تقدمت المملكة كثيراً في مجال تحويل كثير من الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وإخضاعها إلى الحوكمة والشفافية، وذلك من باب الإفصاح والإصلاح والتوزيع العادل للثروة، وفتح الباب لأبناء الوطن لتملك أسهمها والمشاركة في أرباحها، لكن شركات المقاولات في الوطن لم تمر عليها رياح التغيير وظلت تحكمها الضبابية وعدم الإفصاح، واستمرت في تنفيذ مشاريع التنمية، إما من خلال عقود الباطن أو استغلال للعمالة السائبة، وفي ظل غياب للكوادر الوطنية في هذا المجال الحيوي والمهم.؟
تحول قرار الملك سلمان - حفظه الله - إلى نداء عاجل من أجل إصلاح غير آجل للوضع الذي يكتنفه الغموض والضبابية، والحل لا يخرج عن ما يفعله العالم المتقدم، وهو تأسيس الدولة لأذرعة اقتصادية مساهمة تشارك في ملكيتها الحكومة على غرار سابك والكهرباء، وتقوم بقيادة التنمية الإنشائية والعمرانية تحت رقابة الأنظمة، وتصب عوائدها الاستثمارية في خزائن الوطن والمساهمين من أبناء الوطن كافة.؟
بصريح العبارة، تحتاج البلاد إلى عملاق اقتصادي على غرار شركة أعمار الإماراتية، مهمتها قيادة التنمية العمرانية وبناء مشاريع الإسكان الاستثمارية، بدلاً من الوضع الحالي، والذي قدم وما زال يقدم صورة عن كيف يتحول الوافد الأجنبي إلى مقاول يكسب الملايين في خمسة أعوام، بينما هو لا يحمل رخصة عمل في هذا المجال، ولا يدفع أي ضريبة على أرباحه العالية، وقد شهدنا في السوق المحلية خلال العقود الماضية أشخاصاً قدموا للبلاد كموظفي مكاتب، ثم تحولوا بسبب فوضى السوق إلى إمبراطوريات عملاقة في الإنشاءات، وما أن تنتهي المشاريع يختفون في الضباب خارج حدود الوطن!
لا يحدث مثل هذا إلا في السعودية، فقد وفرت الفوضى فرصاً لا حصر لها للعمالة من القطاعات كافة، وفي أن يتحولوا خلال سنوات إلى مقاولين ومهنيين، وقد راقبت تطور بعضهم، وكانوا قد دخلوا إلى البلاد كعمالة يدوية، ثم تحولوا في غمار حالة اللانظام إلى مقاولين يبنون للمواطنين منازلهم وينفذون المشاريع للشركات والمؤسسات، برغم من أن بعضهم لا يفقه الأبجدية، فما بالك بهندسة الإنشاءات، وبعبارة أكثر دقة أصبحت وظيفة مقاول مهنة من لا مهنة له، ولا يحتاج الأمر في البدء إلى مكاتب ومهندسين، ويكفيه فقط إعلان على الجدران وبجانبه رقم جوال وهكذا..؟
كان نتيجة ذلك تلك الصور المشوهة من المباني غير المتناسقة وربما غير المنشأة على أسس هندسية صحيحة في بعض الأحياء في المدن وفي القرى والأرياف، وعند حدوث الكارثة في المستقبل - لا قدر الله - ويسقط المبنى، يختفي المقاول المجهول من خلال تلك البوابة، والتي خرجت منها مئات المليارات خارج الوطن..؟
ليس من مصلحة الوطن أن يستمر سوق المقاولات في حاله هذه، والذي يعتمد في نسبة غير قليلة على شخصيات وهمية لتنفيذ مشاريع الإسكان للمواطنين، وعلى شركات عائلية لتنفذ مشاريع التنمية في الوطن، ولعل قرار الملك - حفظه الله - يفتح الأعين من جديد حول أهمية إصلاح وضع السوق، والتفكير جدياً في تأسيس الذراع الاقتصادي الضروري لقيادة التنمية العمرانية، والذي تملك الدولة النسبة الأعلى من أسهمها، ويُطرح الباقي على المواطنين.
من خلال هذا النموذج الصحيح، تصبح الدولة المستفيد الأكبر من مدخولات القطاع العالية، وتزيد بذلك من نسبة المداخيل غير النفطية، وفي الوقت نفسه لا تنحصر عوائد تلك المشاريع العملاقة في جيوب عوائل أو أفراد مجهولين، وبالتالي تعود بعض من أرباحها على ملاك الأسهم من المواطنين، و يتحقق بذلك نوع من توزيع الثروة العادل... حفظ الله الوطن من الكوارث والمحن، والله المستعان..