عبدالعزيز السماري
مسألة تقنين الشريعة لم تعد تحتمل التأخير، فالقضايا تتطور والأحكام الشفوية والاجتهادات الشخصية تتواصل، والأمر برمته لم يعد يواكب تطور الجرائم وتغيرها في العصر الراهن. وللتاريخ، بدأت قضية دراسة التقنين منذ 39 عاماً، وتحديداً عام 1393هـ، وحينها طرحت مسألة تقنين الأحكام على طاولة هيئة كبار العلماء، لكن الهيئة رأت آنذاك أن المصلحة تقتضي عدم التقنين. لم أدرك مغزى المصلحة والمقصود منها في رد مشروع التقنين.
خلال السنوات الماضية، وفي قرار تحفظ عليه عدد لا يستهان به من الأعضاء، عادت أخيراً قضية التقنين إلى الظهور، وذلك عقب صدور موافقة سامية على تشكيل لجنة شرعية على مستوى عال تبدأ أعمالها في غضون أيام لإعداد مشروع مدونة الأحكام القضائية، وتم العمل. وقبل عام ونصف العام نشرت الصحف المحلية خبراً أن وزارة العدل انتهت من إعداد مشروع تقنين الأحكام القضائية الاجتهادية، وذلك لتجاوز التباين الكبير في الأحكام التعزيرية الصادرة في القضايا الجنائية من قاض لآخر في المحكمة نفسها، ومن محكمة لأخرى.
لكن برغم من ذلك لم يخرج إلى النور بعد، وربما يحتاج الأمر إلى مزيد من الدراسات، لكن التأخير يعني أيضاً مزيداً من الأحكام المتفاوتة، وفي ذلك تأثير على سمعة القضاء، وعلى حياديته في حال استمرار الاجتهادات الشخصية. ولعل من أهم المآخذ على القضاء الإسلامي اعتبار القاضي مُشرعاً وحَكماً في الوقت نفسه، ثم ترك الأمر اجتهاداً وتقديراً، بينما من المفترض أن يحدد المشرع سلفاً العقوبة الملائمة لكل جريمة بين الحد الأدنى والأقصى، ثم ترك السلطة التقديرية للقاضي من أجل التصرف بين الحدين الأدنى والأقصى.
لم يأت التشريع على تعريف مجرد ومفتوح لاجتهاد القاضي، وللتفاوت في أحكامه بناءً على تقديرات شخصية، وإنما جاء من خلال استنباط حكم نافذ من نص قانوني أو شرعي، وقد أتى الفقه وعرَّف الاجتهاد لغة بأنه: «استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور». وما أورده ابن منظور في لسان العرب يتفق مع ذلك، فالاجتهاد: هو بذل الوسع في طلب الأمر، وهو أيضاً افتعال الجهد والطاقة لوضع الأحكام القضائية في مدونة قانونية. والمراد بذلك رد القضية التي تعرض على القاضي عن طريق القياس إلى مصادر واضحة ومقننة في التشريع، وما يجري من جهد لتقنين الأحكام القضائية ثم إصدارها في مدونة قانونية يتفق مع ذلك التعريف.
تعد الجريمة ظاهرة اجتماعية لصيقة بالمجتمع، تنبع منه وتحدث فيه، فلا وجود لمجتمع خال من الجريمة، التي تتضمن معنى إيذاء الآخرين والتعدي عليهم وعدم احترام القوانين التي تضمن لكل ذي حق حقه، والملفت للنظر في العصر الحديث تطور الجرائم وظهورها في أساليب عصرية متطورة، ولم يكن لبعضها ذكر في التشريع الإسلامي، مثل اضطهاد الأطفال والنساء، والجرائم المعلوماتية، والإرهاب وغيرها. وإذا لم يتواكب مع تطورها إصدار قوانين عامة، سيصبع العقل الإجرامي أكثر ذكاءً في تطوير أساليبه في إيذاء الآخرين.
يواجه تقنين الأحكام القضائيه تحديات كبرى، لعل من أهمها مواجهة القضايا الإجرامية التي تحدث بناءً على اجتهاد ديني، ومنها على سبيل المثال بعض قضايا الاحتساب الجائر في اختراق الخصوصيات الاجتماعية، وأيضاً قضايا الإرهاب، والتي ما زالت تئن تحت بند الضلال، بينما هي جريمة جنائية بحتة. كما ستواجه المدونة القضائية تحدياً آخر، وهو التكفير، والذي يعد في ميزان أهل السنة والجماعة دعوة مباشرة للقتل، وهل سيكون التكفيري مداناً بقضية التحريض على القتل في المدونة الجديدة.
من أجل إكمال مشروع تطوير القضاء على أكمل وجه، ومواكبة العصر في لغته القانونية، يجب العمل على إخراج القضاء من المرجعية الشفوية والاجتهاد الديني، والذي أصبح باباً مشروعاً لخروج جماعات التكفير والإرهاب والعنف، والتي تستغل شرعية الفتوى عند طلبة العلم الديني في إصدار الأحكام والتشريعات في وسائل الاتصال الاجتماعي والإعلام..
ما أريد الوصول إليه أن ترك هذا الباب مفتوحاً للشفوية يفتح المجال على مصراعيه لخروج المشرعين غير النظاميين في جانب، وفي جانب آخر يؤدي ذلك إلى الانحياز في إصدار الأحكام، وقد لاحظنا كثيراً أن بعضهم ما زال يتردد في التنديد بالمتطرفين والضالين كما يطلقون عليهم، بسبب شرعيتهم الدينية، وويبررون ذلك أنهم مجتهدون في الأمر، ومن اجتهد وأخطأ له أجر، وذلك بيت القصيد في قضية شيوع ظاهرة الإرهاب. والله على ما أقول شهيد.