عبدالعزيز القاضي
ورّق من الشوق وأشّر للحمايم وقال
أحبابي هناك عيروني جناحينكم
- متعب الشراري
هذا البيت فاز بمائة ألف درهم إماراتي في مسابقة (نبض الصورة)، ضمن برنامج (البيت) الذي يُشرف على إنتاجه مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث - ما شاء الله تبارك الله - فقد أحرز المركز الأول في التعبير عن صورة بدت فيها شجرة غاف وسط الصحراء وقد دبت فيها الحياة بعد جفاف، فبدأت بالإبراض والإيراق وقد حط عليها زوجان من الحمام، والبيت صورة جسد فيها الشاعر ذاك الغصن المنحني، وأنطقه بتفسير مقنع للتخيل لما ورد في الصورة من محتويات بصرية.
والبيت - مجردا من الصورة - لا يدل على المراد به, فمن يقرأه معزولا عنها وعن المناسبة يخاله حديثا عن قلب متيم لا عن غصن شجرة محطم. وهو - مجردا من الصورة أيضا - ليس فيه ما يلفت الانتباه الذوقي لا من حيث المعنى ولا من حيث الصياغة, فهو بيت من ركام الأبيات, بل فيه من التعبير ما لا يرتقي لوقار التعبير الشعري, فهو لم يتفرد باقتناص معنى مبتكر, وليس فيه مفردات ممغنطة ذات إشعاعات وتأثيرات نفسية سوى تعبير (ورّق من الشوق) بهذا التعليل الجميل, وكذلك مفردة (الحمايم) بهذا البناء المكتظ بالإيحاءات الشاعرية.
ولا يعني هذا أن ارتباط البيت بالصورة قد أفشله, فهذه هي طبيعة المسابقة (بيت شعر يُترجم صورة) ولذلك فإن هذا النوع من الشعر يُصنف على مقياس (الشاعرية) لا (الشعرية)، وأقصد بالشاعرية القدرة, وبالشعرية الإبداع, فهو لا يرتقي لأن يستقل بنفسه بيتا مثيرا ومؤثرا, لأنه لا يثير ويؤثر إلا المعبر عن المشاعر الإنسانية لا عن مشاعر الأشجار والحيوانات والجمادات وغيرها.
فما الذي لفت انتباه لجنة التحكيم فيه ليتم تتويجه بالجائزة الأولى؟ قيل لي - والعهدة على القائل, فأنا لا أعرف المسابقة ولا أتابع برامج الشعر - قيل إن الصورة في الشطر الثاني هي التي منحته الجائزة، على الرغم من أنها صورة مطروقة مستهلكة! ولهذا يبدو أن تقييمه تم بناء على أسس (معيارية) لا على أسس (محكّية), أي تم تتويجه لأنه أجود المعروض وليس لأنه مميز في ذاته. والجوائز الأدبية أظن أنها يجب أن تُمنح بناء على الأسس المحكّية فقط ليس غير, لأن (المحكّي) يخدم الشعر و(المعياري) يخدم الشاعر!
أما الصورة فكما ذكرت مطروقة مستهلكة, وهي مستنسخة من قول قيس بن الملوّح:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقلت ومثلي بالبكاء جدير:
أسرب القطا هل من يعير جناحه؟
لعلي إلى من قد هوِيتُ أطير
وشتان ما بين جمال الفصيح وجمال النبطي, وشتان ما بين قول المجنون (أسرب القطا هل من يعير جناحه؟) وقول متعب الشراري (وأشّر للحمايم وقال أحبابي هناك عيروني جناحيكم)، فبيت المجنون فيه استفهام استعطاف وتوسل لطيف, وبيت متعب فيه (أمر) خالٍ أو شبه خال من التلطف والاستعطاف, والموقف موقف رجاء وتوسل لا موقف أمر واستعلاء, فالمجنون خاطب القطا متوسلا باكيا, والشراري جعل الغصن يخاطب (الحمايم) بلهجة الآمر المستعلي بعد أن (أشّر) لها لاستيقافها, فجعلها بهذا التأشير كسيارات الأجرة على الطريق, أو كالعبيد والخدم والموظفين يؤمرون لينفذوا! ولم يقدم بين يدي طلبه أي مظهر توسل واستعطاف لا بكلمة ولا بدمعة, اللهم إلا تلميحا خفيا بالحاجة, والتلميح في مثل هذه المواقف لا يؤثر كما يؤثر التصريح, فالتوسل والخضوع أبلغ أثرا في نفس المستعطَف - بفتح الطاء - من ترك الأمر لتقديره الشخصي.
أما كلمة (جناحينكم) في البيت فلا أظنها ترتقي لوقار الشعر بهذا الشكل وفي مثل هذا السياق, وإثبات النون فيها مع الإضافة جعلها كما يقول ابن الأثير: ناتئة كركبة البعير! وهذا الإثبات طبيعة عامية وليس بعد الكفر ذنب.