د. خيرية السقاف
بيتها يطل على ممر مستطيل ينعطف إلى الطريق العام،..
تعود إليه أصداء الأبواق، والناس، وومضات النيون،..
تنعكس على جداره تفاصيل الحي،
لا تمر به الأقدام إلا لمن يخرج من بيته، ثم تؤوب به إليه..!!
الجيران لا يعرفون بعضهم، مشغولون ببريق الطريق الطويل الذي يخاتلهم خلف دورهم،!!
يرسل إليهم نداءاته التي تغريهم،..
يراوغهم بألوانه التي تدهشهم، وفي أطباقه يحرك شهياتهم لكل الذي يحتويه..
تجلس هي عند حافة نافذتها الزجاجية وقد جعلتها حديقة فيحاء..
تسقي شجيراتها، تشذّب وريقاتها، تطعم تربتها، وتقيم بجوارها قفصاً لعصافير محبتها..
عصافيرها ملونة ذات شدو آخّاذ..
وسَمّوا هذه العصافير «بعصافير المحبة»،
أي محبة في السجن، والأغلال..؟!
لكنها أطلقتها حولها،..
تداعبها، تردد عليها: «أحبك» عصافيرها الرقيقة الجميلة، المفعمة بالحيوية، والبهاء..!
ترسل لها كل لحظة تكون إليها وابلاً من تنهُّداتها، تأوُّهاتها، وآهاتها..
تقضي معها الوقت رحباً محرراً من الأسلاك!!
وحين تغرد تذهب كفها ببطء نحو خديها تُخبئ انبجاس النهر في عينيها..!
خلف النافذة من الخارج شرفة مستديرة جعلتها مسكناً لحوض كبير عبأته بتراب كالتبر،
غذته، أسقته، غرست فيه أعمدة من أراك..!!
يوماً آوت إليه حمامة رمادية حزينة، وحيدة، خافتة الهديل، بطيئة الحركة، عاجزة الجناحين..!
كابدت عناية بها..
ما لبث الوقت أن يمضي حتى انضم إليه من الحمام اثنتان، فثلاث، فأربع،
تُمسِّي على احتكاك الأجنحة، وعلى انطلاقها تصحو.!!
توالدت الحمامات، وما عرفت بعد أيها تلك النازلة في البدء منهن،..!!
شُغلت بهن عن الممر المنعطف للطريق الكبير،
أصاخت سمعها عن الأبواق،..
تجاهلت الأصداء، والأضواء..!
ما عادت تسمع النداء، ولا تتشهّى أطباق الطريق..
ولا تدري متى تخرج أقدام الجيران، أو تعود لدورها،..!
عصافير المحبة، والحمام حولها
حين تتقرطس في الخوض الكبير فالإيذان بالليل،
وحين تنفض الأجنحة فالإيذان بتنفُّس الصبح..
وبينهما تكدُّ هي في الذي يكون من شؤونها،..!
وهذا يكفيها،..
يكفي سيدة الدار في مدينة البحر..!!
* * *
كنت أرقبها لعشرة أيام مع قهوة الصباح، وشجن الضحى، وقراءة المساء..!
* * *
إن المرء إن لم يشأ، فلا من يُقسره على ما يشاء..!!