عبدالله بن محمد السعوي
6- إن نوعية التعليم الذي يتلقاه الطالب في المرحلة الابتدائية - إن جودة أو رداءة - سينعكس عليه تماماً فيما بعد في بقية المراحل الدراسية وهذا يؤكد ضرورة إنفاق الجهود الأكبر لهذه المرحلة بالذات بوصفها القاعدة الهرمية المؤسسة للكينونة العامة
وبشكل سيلقي بظلاله على النشء في كافة أبعاد المسيرة التعليمية ومن يتأمل - يا معالي الوزير- في واقع المخرجات الابتدائية وما خلفته من بصمات ومنتج تعليمي منخفض الكفاءة يصاب بقدر كبير من الإحباط لتدني سويتها وضمور وهجها وضعف أثرها من جهة التأصيل العلمي المتماسك فالطالب يتجاوز- قسراً!- المرحلة الابتدائية ويواصل المسيرة في التعليم العام ثم الجامعي وهو يفتقر أحياناً إلى أدنى أبجديات المعرفة في معظم المواد حتى قد لا يتقن بديهيات القراءة والكتابة مما يجعل المعلم في المراحل العليا المتوسط والثانوي يبدو وكما لو كان يريد بناء الطابق الثالث وهو لم يضع بعد القواعد الأساسية «الميدة» إنه يقع بين أمرين كلاهما متخمان بالمرارة: إما أن يرجع ويبدأ بالتأسيس للطالب من جديد وهذا سيكون على حساب منهجه ووقته من جهة وعلى حساب مصلحة الطالب المتفوق من جهة أخرى, أو أن يمضي في خطته المرسومة فيباشر شرح المنهج المقرر وهنا سيبني على شفا جرف هار لأن الطالب هنا يفتقد المعلومات السابقة والتأسيس القبلي المفترض وجودهما كشرط جوهري لنجاح عملية التراكم المعرفي, ومن هنا لا بد من إعادة النظر إلى هذه المرحلة التأسيسية وتعاهده بالمراجعة والتصفية والإنضاج وإعادة تأهيلها لتكون تربة صالحة للاستنبات.
7 - على صعيد المناهج والمقررات ولرفع مستويات التفاعل الطلابي ولإذكاء جذوة توقدها لا بد من توفير مقدمة تمهيدية وبتفصيل نسبي عن كل علم كإرهاص وكتهيئة ذهنية للطالب هذا من ناحية, وللربط بين المنهج وبين الواقع من ناحية أخرى, لا بد من إيجاد هذا المدخل الاستهلالي ليقف الطالب وعن كثب على بدايات تشكل هذا المسار من العلوم وطبيعة مكوناته وفلسفته النظرية وترتيبه في سلم الأولويات المعرفية وأبرز التفاصيل والمنعطفات المفصلية التي مرَّ بها وتجلية الأبعاد المقاصدية لدراسته وما عوائد ذلك وما مردوده وما قيمته في واقع الإنسان وما أبعاده الفاعلة في الحياة العامة.
إنها كارثة فعلاً حينما يمضي الطالب معظم وقته في دراسة مادة لا يعلم ما قيمتها ولا يعرف طبيعة ارتباطها في حياته المعاصرة ولا يعي كيفية توظيفها هنا لا شك ستكون المادة ثقيلة ومربكة ولا يشعر الطالب إزاءها إلا بالمزيد من النفور ووهن القدرة على التكيف وعلى نحو يُفقد المادة وظائفها والغاية النهائية من إيجادها!
8 - في هذا الظرف السياقي المتكهرب والذي تزدهر فيه أشكال الإرهاب والإرهاب المضاد والذي يتمثّل تحديداً في طائفتي «الخوارج والمرجئة» نحن بأمس الحاجة إلى وضع مقررات تنطوي على شيء من تفاصيل التشريع وتاريخه وألوان الاختلاف بين الانتماءات الفقهية وأسبابها وآلية التعاطي معها وعلى نحو يؤسس للذهنية الممنهجة ولعقلية التحليل والتركيب مقابل التجافي التام عن ذلك النمط القائم على تلقي الحقائق الجاهزة وتصنيم مروجيها, هذا التصنيم الذي يبدو طبيعياً وذلك بفعل التمحور الأحادي حول الأشخاص والتجاهل التام لأهمية جدل القراءة الفقهية كرؤية اجتهادية أولية لمعطيات التشريع, من المهم هنا التركيز على كل مفردة من شأنها التأسيس فعلياً للمرونة والتعايش والتنوّع وصناعة فضاء نظري رحب يتيح للتنوع أن يأخذ أقصى مداه وفي ظل آفاق فسيحة تؤهل لتوسيع دائرة التعاذر وعدم نفي المغاير الفقهي أو التعاطي معه بنَفَس قمعي وبطريقة لا تفضي إلا إلى جمود الفقه ومن ثم انحسار كافة السياقات المعرفية وتكلس مخرجاتها.
لابد من تجاوز القراءات المفْرطة في اختزال التراث والممعنة في تعظيم الشخوص على حساب المعرفة ومن ثم محاصرة سلوك من يستشرفون التعصب كحالة تعبدية تؤسس للدينونة الحقة بوصفها خالصة لهم من دون الآخرين!
9- ضرورة إعادة النظر في آلية التعيين وسن قوانين حديثة ومعايير موضوعية تراعي شروط الواقع ومقتضيات المعاصرة ومعطيات الراهن, لقد أضحى هذا التعيين كابوسا لا يقلق المعلم والمعلمة فقط، بل حتى أسرهم طاولها الأذى ومسها الضر بفعل اغتراب الأبناء وما يترتب على ابتعادهم من عنت يزيد من عناء الأسرة وبشكل يضاعف من حجم تصدعاتنا الاجتماعية ويتيح لها أن تأخذ مداها الأوسع!
الوضع لدينا مأساوي والعوائق البيروقراطية تتزايد والآليات التعيينية لا تتزحزح، بل تتكرر وباستمرار وبشكل يكشف عن بعد تسلطي جعل الأزمة تستفحل والبنيان الاجتماعي يتفكك وبشكل يكشف عن حجم الجناية المرتكبة في هذا السياق!, فالمعلم الذي في الغرب يعين في قرية نائية في الشرق, ومَن مقر إقامته في الشرق يتم توجيهه قسراً إلى هجرة نائية في الغرب وهكذا نعيش في تلك الدوامة الكارثية التي لا يستشعر معاناتها إلا الذين يصطلون بنارها ويلابسون إفرازاتها التي لا تكف عن التفاقم!
والذي يثير العجب أكثر أن تلك الآلية في التعيين ليست محصورة على الرجل فقط, بل حتى المرأة تعامل بالمثل فيتم تعيينها في مناطق نائية بعيدة عن منطقتها الأصل ويتجاهل أولئك القائمون على عملية التعيين ظروف المرأة وطبيعة النسق الاجتماعي والوسط الثقافي الذي تعيش فيه وكونها لا تقود السيارة كالرجل ومع ذلك يتم تعيينها في هجر وقرى يتعذر الوصول إليها إلا بشق الأنفس وذات طرق - هذا إن صحت تسميتها طرق!- غير معبدة وقد تمر بأودية ومرتفعات وعقبات وقد يصاحب ذلك أجواء ضبابية, هذه الطرق التي التهمت الأرواح وجعلتنا أمام مشهد جنائزي مخيف ظلت على أثره بناتنا على موعد يومي مع رحلة الموت المرعبة هذا السبب هو الذي اضطر أخواتنا في العام الماضي وهن ما يقارب عشرين ألف معلمة اضطررن - وتحت سيطرة الضغط النفسي ومشاعر العجز والاضطهاد وعدم وجود قانون يحميهن ويرد لهن الاعتبار!- اضطررن إلى التنازل عن الوظيفة التعليمية والقبول بالوظيفة الإدارية والقبول - تحت إكراه القوة الناعمة!- بما يترتب على ذلك من نقص في المناحي المادية كل هذا تفادياً للوقوع في فخ متتاليات الغربة ومشاكلها المتفاقمة وحوادثها المروّعة, ومن هنا - يا معالي الوزير- وأخاطب فيك ضميرك الوطني متطلعاً إلى إعادة النظر في إجراءات التعيين - عموماً - هذا من جهة ومن جهة أخرى تعويض تلكم الإداريات إما بتعيينهن على وظائف تعليمية داخل مناطقهن أو على الأقل تعيينهن على الدرجة المستحقة لهن إداريا والتقليل بقدر الإمكان من الخسارة المادية التي تعرضن لها جراء التنازل عن الوظيفة التعليمية.
وحاصل القول: أدرك - يا معالي الوزير- أن أوجه القصور الذاتي في الوزارة هي نتيجة سنين عجاف متراكمة مما يجعل حجم المسؤولية مضاعفاً لكن بعزيمتك - يا عزام - وبجهود الفريق التربوي معك وبالانفتاح على التجارب الخارجية الناجحة في هذا السياق تستطيع أن تعمل على تسريع إيقاع الإصلاح ومكافحة الأخطاء ومقاومة معوقات النمو وإعادة الهيبة للمعلم واسترجاع مكانته المعنوية ومنحه حقوقه المادية وانتشال الوزارة وحمايتها من مخاطر الموت الـ»بيولوجي».إن سقف الطموحات ليس له حدود فهل تستطيع - يا عزام - أن تصلح ما أفسده دهر الوزارة؟