علي الصراف
عندما لا تستعين الدولة بعقلانيتها الباردة، وعندما يخرج نقاشها عن سياقه العملي، تنشأ أزمة في الفهم أكثر تعقيدا من «الأزمة» التي تثار الآن حول «طوفان» اللاجئين الذين يحاولون العبور الى أوروبا.
من السهل معرفة كيف يفكر بعض السياسيين في أوروبا، من يسارهم الى يمينهم. الكثير منهم يستند الى مواقف أيديولوجية مسبقة، ويحرص على استرضاء غرائز ناخبيه حتى ولو كانت بلا صلة مع الحاجة الى إعمال العقل. وكل هذا يجعل من أي سياسات يقودونها، رد فعل سطحي وهائج.
العقلانية شرط لعمل أي دولة، والقدرة على إجراء حسابات مجردة، شرط آخر.
الكثير جدا ممن وجدوا أنفسهم مهاجرين، شرعيين وغير شرعيين، انتهوا الى أن أصبحوا جزءا من سوق العمل في بلدان اللجوء.
هل قدمت لهم تلك البلدان شيئا؟ أقول ببساطة الاعتراف بالجميل: نعم، لقد قدمت لهم الكثير؛ قدمت أمنا وسلاما وقدرة على العيش وفقا لقيم القانون. ولكن بدلا من الاعتقاد السائد، فان الغالبية العظمى من أولئك المهاجرين لم تكلف «دافع الضرائب» شيئا. ما يحصل هو العكس. فعلى مر السنوات، يقدم اولئك المهاجرون من عملهم لدافع الضرائب الكثير. نحو نصف مداخيلهم تذهب في العادة الى «رجل الضرائب». وتلك معادلة معقولة تماما. فالضرائب، وفقا للمعايير الأوروبية، هي بالأحرى القسط الوحيد المطلوب من أي إنسان ليعيش في دولة تتصرف كدولة (تقدم خدمات الأمن والرعاية الصحية والتعليم، مقابل ذلك القسط).
عشرة فقط من المهاجرين الذين يدفعون ضرائبهم على مدى سنوات العمل المألوفة (نحو40 عاما) يمكنهم أن يقدموا لرئيس الوزراء الفرنسي كل المساعدات التي حصل عليها من الاتحاد الأوروبي لإنشاء «المخيم الإنساني» (5 ملايين يورو)، لإيواء نحو 1300 مهاجر يتكدسون كقطيع سائب من البشر على جوانب الطرق الى ميناء كاليه.
تطلّع بالرقم، ولسوف تسأل نفسك: أهي معقولة كل هذه الجلبة التي أقامتها الحكومات الاوروبية حيال قدوم 350 ألف مهاجر (وسط أكثر من خمسة ملايين مهاجر سوري وعراقي تستضيفهم دول المنطقة، من دون جلبة). فلو انهم كانوا مليونا وثلاثمئة وخمسين الفا، فإن كل الكلفة لإيوائهم لن تزيد على 5 مليارات يورو. دع عنك ان هناك العشرات من المدن في أوروبا تكاد تخلو من سكانها. ودع عنك أيضا أن الكثير من أولئك المهاجرين، متعلمون (بمعنى أنهم وفروا على أنظمة الرعاية كلفة تعليمهم الأساسي). ودع عنك أيضا وأيضا أنهم «عمالة رخيصة» يحتاجها النظام الاقتصادي نفسه.
في أسبوع واحد من الشهر الماضي، خسرت مؤشرات البورصة الرئيسية في أوروبا نحو تريليون يورو من قيمتها، قبل أن تعود لتسترد ثلاثة ارباع تلك الخسارة في يوم واحد. فتأمل قيمة ما أقامته تلك الجلبة ولم تقعده بعد.
حسابيا، فإن إجمالي الكلفة هزيل. ويكفي أن يجد ثلاثة من كل عشرة مهاجرين عملا، لكي يغطوا بضرائبهم كل ما قد ينشأ من تكاليف لإيواء ورعاية السبعة الآخرين. أما الأطفال منهم، فإنهم مشروع لماكينة دفع ضرائب تستمر لـ40 عاما.
ولا يريد أولئك المهاجرون إلا القليل، وعندما يجري إهمال الحروب والمظالم التي يتعرضون لها في أوطانهم فليس من الكثير على معادلة الشراكة الإنسانية أن تتحمل أوروبا قسطا من الواجب.
ولكن النقاش في أوروبا كلها يخرج عن سياقه، حتى ليكاد المرء يتساءل: هل بقي هناك عقل؟ هل وصلت الهستيريا الأيديولوجية بهذه القارة الى درجة أن العقل لم يجد له مكانا بين «يسار» يمارس إنسانيته كنفاق صريح، و»يمين» يمارس عنصريته كاستعلاء غبي ضد بشر آخرين؟
وسط كل هذا النقاش، خرج رجل واحد هو المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر (في مقال لصحيفة «فيلت أم زونتاج» الأسبوعية في الثلاثين من الشهر الماضي) ليقول: «نحن بحاجة الى مهاجرين في نظامنا الاجتماعي؛ لأنه بدون هذه الهجرة لن نعود قادرين على الإطلاق على تمويل المعاشات في المستقبل».
لأسباب كثيرة، تتراجع نسب الولادات في أوروبا. بينما أنظمة الرعاية الاجتماعية تحتاج الى «ممولين» جدد من دافعي الضرائب.
هذا حساب عاقل. ولكنه حساب من مستشار سابق، لدولة عقل سابقة أيضا.
عندما يغيب العقل، يصبح من الطبيعي أن تتحول فوضى المنطق الى مخاوف على هوية أوروبا المسيحية، وأن تسمع جلبة، وتعهدات استعلائية فحسب لأداء «الواجب الإنساني» بينما يُعامل المهاجرون كقطيع من الغنم.