د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كتبت قبل فترة وجيزة مقالاً حول الاتفاق النووي الذي وقع بين مجموعة الخمسة زائد واحد وإيران، وذكرت أن هذا النوع من الاتفاقيات الذي يدعي كل طرف فيه أنه هو المنتصر الأوحد، ويركز فيه على شكليات التوقيع، ويضخم ما يراه إيجابيا فيه على حساب التنازلات التي قدمها يكون مثار شك وجدل.
وذكرت أيضاً أن الاستعجال بالاتفاق وإخراجه من الفرن نصف استواء يوضح بجلاء أن الأطراف تريد التحلل من تعهدات وسياسات و حظور (جمع حظر) سابقة؛ لأنها أيقنت أنها لم تعد مجدية وأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به أو الأوراق التي كتبت عليها. وكان واضحاً أن الحظر قد ألغي في الواقع قبل وقت طويل من التوقيع على إلغائه على الورق.
مشكلة أصدقائنا في الغرب أن البراجماتية لديهم زائدة حبيتين، وأنهم يرتدون نظارات خضراء داكنة يرون بها العالم من منظار المصالح والمال فقط. فقد دفن التنافس المحموم والمزايدات السياسية آخر ما تبقى لهم من قيم وأعراف سياسية. بل ويمكن القول إن أي نظام جديد يحاول التصرف من مبدأ القيم والأخلاق السياسية سيجد نفسه في وضع نشاز في هذا الجوقة الفاسدة التي تبيح لنفسها أي مصالح تستطيع الوصول لها حتى ولو نهبت من القوت الأساسي للشعوب المستضعفة، وعلى حساب صحتهم وعلاجهم.
فشعار العالم اليوم هو: من سرق لبق وليس من سبق لبق. والسرقة غير مسموح بها في الغرب في الداخل ومن يثبت تورطه فيها تنتهي حياته تقريبا بمآسي الملاحقات القانونية، ولكنها مرحباً بها في الخارج ولا تسمى سرقة بل تسمى «مصلحة»، انتيرسيت، وجمعها مصالح.
الحظر الذي فرض على إيران، ولا أعتقد أن الغرب يجهل ذلك، كانت إيران كما صرح روحاني نفسه تلتف عليه بكل سهولة ويسر. كل ما في الأمر، حسب كلامه، أننا كنا ندفع زيادة طفيفة في البضائع التي نستوردها عبر أطراف وموانئ ثالثة. والأمر ذاته ينطبق على النفط الذي تبيعه جهات أخرى لصالح إيران بفائدة مقدرة. فإيران كانت تخوض حرباً على ثلاث جبهات ولمدة أكثر من عقد من الزمن دون أن يؤثر عليها الحظر بشكل فعال! بينما كان الأطفال يموتون في مستشفيات العراق من نقص الدواء أيام الحصار الجاد الذي فرض عليه.
وتجارة الغرب الرئيسة، التي تدور حولها مصالحهم هي السلاح، تليها الطاقة. فالتكنولوجيا تدخل القطاع العسكري قبل أي قطاع آخر في الاقتصاديات الغربية. والقطاعات العسكرية تحظى بنصيب الأسد من الميزانيات، والبحث. والسلاح هو السلعة الأولى في الأسواق الدولية حتى في التجارة البينية بين الدول المتقدمة ذاتها. فعالم اليوم الذي يتعامل أعضاؤه مع بعضهم البعض ، بمنطق العصابات يحتاج لكثير من السلاح. وقد تشتري دولة أفريقية، مثلاً، سلاحاً قد لا تحتاجه بينما نصف شعبها يموت من الجوع! وبما أن صناعة السلاح أصبحت سلعة تجارية في ازدهار دائم فكثير من السلاح يصبح قديماً بمجرد اكتشاف سلاح أحدث ولا بد من التخلص منه بالتسويق في الخارج فقط؛ لأن السلاح الجديد سيحل محله في الداخل.
وبما أن السلاح أصبح سلعة تجارية مربحة بامتياز مع غياب تام للمبادئ فهو يباع في أسواق سودا وبيضاء بطريقتين: إما على الدولة ذاتها لتشتريه كنوع من الدعم وتقدمه هدية لدولة حليفة كمساعدة لها على ضبط شعبها أو تخويف جيرانها، أو يباع عبر وسطاء بسمسرة عالية لمسئولين نافذين ذمتهم لا تتجاوز جيوبهم. ونسبة السمسرة في السلاح هي الأعلى قيمة، وعقوده الأسرع توقيعا لأنها دائما سرية. وإذا تطلب الأمر إشعال حرب هنا أو هناك لكسر ركود السوق أو لإضفاء الشرعية على عقود هذه التجارة الرابحة وإيجاد مبررات لها، فهناك من يقبض لتأجيجها أيضا.
أغلقت إيران جميع الصحف التي انتقدت الاتفاق بحجة أن الاتفاق تم ووقع وهو انتصار ولا مجال للخوض فيه بانتقاده. وهذا ليس هو مربط الفرس. فمربط الفرس الحقيقي يتمثل في المصالح التي رتبت لأعضاء الحكومة الإيرانية ومن يعولون من عقود شركات القادمة والتي لا بد أن تحيل الاتفاق إلى انتصار محتم، فالحكومة الإيرانية الحالية لا تحظى بشعبية كبيرة وهي في منتصف الطريق لانتخابات جديدة. والمرجعية الدينية الإيرانية تريد أن تبدو مسهلة لمصالح الشعب الإيراني التي حرصت الحكومة على عدم إيصاله لحد الفقر الذي يجعله يراجع قناعاته الخمينية، وهي يحركها المال بشكل أكثر انسيابا وربما أكثر من أي دولة أخرى، فالإيمان بها وتقديسها يدفع لتصديق كل ما تقول حتى ولو خالف الواقع، فالله أتاح لها المعجزات.
أما أوباما فخطب خطبة عصماء طويلة غير مسبوقة لتسويق الاتفاق للكونجرس الذي عادة ما يقدم مصالح إسرائيل على مصالح أمريكا ذاتها. فاليهود وإسرائيل لا يسيطرون بالكامل على السياسة الأمريكية لأسباب مالية فقط كما يعتقد، ولكنهم يعدون بالنسبة للبروتستانت الأمريكيين بمثابة المرجعية الروحية لآيات الله في إيران، فغالبية الوسط الغربي الأمريكي تؤمن بأن اليهود هم شعب الله المختار ويؤمنون بقوة بإعادة بناء الهيكل مثلما يؤمن الإيرانيون بعودة المهدي.
فخطاب أوباما كان محاولة مستميتة لتسويق مصالح الشركات الأمريكية التي تؤمن فقط بالدولار كقيمة فعلية على قطاع كبير من الشعب الأمريكي يرى اليهود عرقا مقدسا أمر الرب بمراعاة مصالحه قبل أي اعتبار آخر، ويرون ذلك مصلحة عليا روحية.
وقد كان خطاب أوباما متناقضاً وغير مقنع فهو سوق للاتفاق على أن خير بديل لحرب مثل حرب العراق التي وصفها بخطأ كبير تسبب في دمار كبير وكلفة إنسانية باهظة للشعب العراقي، ولكنه لم يكلف نفسه الاعتذار عن ذلك. وهو كما هو معروف لم ينسحب من العراق، كما وعد في وقت سريع ولم يغلق جوانتا نامو إلا قبيل الانتخابات فقط. وهو وصف إيران بالدولة التي لا يمكن الوثوق بها التي تنكر المحرقة مما يجب أن يكون مبرراً لعدم التوقيع معها لا اعتبار التوقيع معها انتصاراً دبلوماسيا كما فعل! لكن الاتفاق خير من حرب لا تعرف عواقبها، أي بمعنى آخر هو وقع الاتفاق حتى لا يخوض حربا لأن الحرب مكلفة والشعب لا يريدها، ولكنه عاد وقال بعد دقائق أن أمريكا لديها قوة ستردع إيران عن مخالفة الاتفاق. عموماً نصف خطاب أوباما كان للتسويق لمصالح الشركات الأمريكية والنصف الآخر كان لتطمين إسرائيل، النجف الأشرف الأمريكي.
وكثيراً ما تكلم الأمريكيون في حروبهم عما يصفونه بالأضرار الجانبية، «كو لاتيرال دامج»، عندما يصفون وقوع الضحايا المدنيين أو تدمير منازل الأمنين في غارات يروج لها على أنها جراحية دقيقة، والحقيقة أن أوباما وخارجيته صوبا أسلحة مصالحهم الدقيقة تجاه شركاتهم التي ضغطت على الحكومة بحجة أن الشركات الأوربية تكسر الحظر وتسبقهم للمصالح في إيران، وصوب مصلحة إسرائيل التي تفاخر أوباما ككل الرؤساء الذين سبقوه بأنه قدم خدمات غير مسبوقة لها، وأنه يتفق مع نتيناهو في كل شيء إلا في شيء واحد فقط وهو أن الاتفاق ليس في مصلحة إسرائيل، فأوباما باستنتاج بسيط يعرف مصلحة إسرائيل أكثر من نتيناهو! وأوباما هنا لا يبدو كرئيس لأعظم دولة في العالم بل كرئيس حزب صغير في الكنيست. وهو وعد إسرائيل بكل الدعم الاقتصادي والعتاد العسكري المجاني فبدت إسرائيل كالعشيقة التي يجب استرضاؤها بأي ثمن. أما الحلفاء الآخرون في المنطقة فهم «مصالح جانبية» على وزن الأضرار الجانبية، وسيتم تسريع بيع السلاح لهم.
إن من أنصت لخطاب أوباما واستوعبه جيدا يستطيع بمراجعة بسيطة فهم السياسات الأمريكية الغامضة السابقة، ويستطيع أن يستشف الآليات الداخلية والخارجية التي تتداخل في توجيه السياسة الأمريكية الخارجية. وبالرغم من معرفة بعض دول الخليج بالاتفاقات مبكرا إلا أنه لا يستبعد أنه كان لبعض الدول المجاورة مصالح أثناء الحصار ولها أيضا مصالح من رفع الحصار. فعالم اليوم تتقدم فيه المصالح على العشم الإقليمي.