نجيب الخنيزي
تتباين التحليلات والتقييمات والمواقف إزاء لبنان، كيانا ووجودا فهناك من يرى انه يمتلك مقومات تاريخية ووطنية وسياسية وثقافية واقتصادية ونفسية، وهناك من يطرح انه كيان مصطنع يعيش واقعا بنيويا مشوه وغير سوي، أو قابل للحياة وللعيش المشترك بين مكوناته وفئاته، ما يستدعي ويحفز اندلاع وتفجير الأزمات والعنف والحروب الأهلية بينها على نحو متواصل أو دوري. واللافت أنه، بعد التجارب المريرة والحروب الداخلية المدمرة، التي حولت لبنان إلى ساحة للتدخلات والحروب الخارجية، فإن اللبنانيين أجمعوا في اتفاق الطائف على خيار كون لبنان هو وطن نهائي لكل اللبنانيين، وعلى ضرورة احترام خياراته الوطنية وعروبته وتفاعله مع قضايا الأمة العربية، والابتعاد به عن التجاذب والصراعات الإقليمية التي حولته إلى ساحة لصراع الآخرين على أرضه.
كما دعا إلى قيام حكومة وفاق أو اتحاد وطني، وتحويل لبنان إلى دائرة انتخابية واحدة، ونبذ اللجوء إلى العنف والصراع لحل الخلافات والتناقضات بين المكونات والطوائف في لبنان، وصولاً إلى إقامة الدولة اللبنانية الحديثة، غير أن الوقائع على الأرض تؤكد أن الطريق لتحقيق ذلك ما زال شاقاً وطويلاً، وتكتنفه كثيراً من العقبات والمطبات الداخلية والخارجية، وهو ما يعكس مدى ضعف وهشاشة الدولة اللبنانية وفشل الطبقة السياسية المستندة إلى نظام المحاصصة الطائفية في ترجمة اتفاق الطائف على أرض الوا قع، وحيث تسعى جاهدة للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها على حساب مصالح أغلبية الشعب اللبناني متجاهلة التحديات والمخاطر الداخلية والخارجية المختلفة، وقبل كل شيء الفشل في إقامة وبناء الدولة المدنية، والذي انعكس في الشكوك وغياب الثقة المتبادلة بين مكوناتها الأساسية.
مرت الدولة اللبنانية بمحطات أساسية في تاريخها المعاصر، المحطة الأولى حين اقتطع الانتداب الفرنسي الأقضية الأربعة (عكار، بعلبك، حاصبيا ومرجعيون)، إضافة إلى بيروت وطرابلس، وضمها إلى متصرفة جبل لبنان، ما أدى إلى قيام ما يعرف بلبنان الحالي أو ‹›لبنان الكبير›› في 1920 وفي موازاة عمليه التوحيد والضم في لبنان جرت عمليه موازية تم بموجبها تفكيك وتشطير وتقسيم سوريا الطبيعية الكبرى (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين والعراق)، وهذا المخطط جاء في سياق النتائج التي أسفرت عنها اتفاقات ‹›سايكس - بيكو››، ومن بعدها اتفاق ‹›لويد جورج - كليمنصو›› في 15 سبتمبر/ أيلول 1919 وفقاً لمتطلبات ومصالح المشروع البريطاني - الفرنسي.
المحطة الثانية تمثلت في إعلان استقلال لبنان (1943) والذي قام على أساس مقايضة رفض الوحدة مع سوريا في مقابل رفض الحماية الفرنسية على لبنان، واستند في ذلك إلى التعاقد الحر (الميثاق الوطني) بين مختلف التكوينات والطوائف اللبنانية، وقبل كل شيء بين المسيحيين (الموارنة) والمسلمين (السنة) ، وبالتالي تحول الميثاق من مشروع دولة إلى صيغة للمحاصصة الطائفية، وبذلك لم يستطع لبنان الاستمرار والتطور كدولة ووطن، بمعنى بناء وترسيخ مقومات الولاء الوطني على حساب الانتماءات الطائفية والمناطقية والعشائرية ، والتأكيد على دولة كل المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات ، والتي بموجبها تكون الدولة قادرة على احتواء أو تقبل صراع وتنافس القوى السياسية فيها على أساس سلمي، غير أن ذلك لم يتحقق، حيث حافظت البنية الطائفية على وجودها من خلال ترسيخ الدولة - المزرعة لنظام السيطرة والامتيازات والمحاصصة الطائفية، ما دفع وانحدر بالتنافس والصراع السياسي إلى مستوى العنف والصراع المسلح، والمهاترات السياسية المزمنة وأصبحت الدولة عاجزة عن احتواء وضبط التدخلات والتأثيرات الخارجية، التي وصلت ذروتها في اندلاع الحرب الأهلية الأولى ( 1958) ثم الحرب الأهلية الثانية ) 1975- 1990) ، وفي الواقع فإن الصراع الديني والطائفي والمذهبي في لبنان وغيره من البلدان ليس سوى أحد أشكال الصراع الاجتماعي، حيث يلعب العامل السياسي دور الأداة أو المحرك فيه. ومن هنا فإن مشكلة الأقليات الطائفية والمذهبية في الجانب الأساس منها هي سياسية بامتياز، حيث كان لبنان (بتركيبته الطائفية) ونظامه السياسي وجهين لعمله واحدة، ونذكر في هذا الصدد قول مؤسس وزعيم حزب الكتائب اللبناني، بيار الجميل، إنه لا يفرق بين الكيان (الوطن) والنظام (أنساق الهيمنة) في لبنان.
اندلاع انتفاضة 29 أغسطس الماضي في لبنان تحت شعار (طلعت ريحتكم) وذلك احتجاجا على تراكم النفايات على مدى شهور ، وعلى غرار ما حصل في العراق من احتجاجات على انعدام الكهرباء، كان الحراك بمثابة مفاجأة وجرس إنذار للطبقة السياسية اللبنانية المترهلة، ولزعماء الطوائف على اختلاف مكوناتهم، اللافت هنا أن ما ميز احتجاجات ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء تمثل في التركيز على المطالب الاجتماعية كما تبلورت فيها صورة وشخصية الشعب اللبناني المتجاوز والعابر للتخندقات الطائفية المقيتة وفي الواقع فان العراق ولبنان هما وجهان لعملة فاسدة واحدة يمكن تلخيصها بنظام المحاصصة الطائفية، حيث يصبح أتباع هذا المذهب أو ذاك مجرد قطيع عاجز ومنقاد إلى زعماء الطوائف ومصالحهم الأنانية الضيقة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمهد الحراك الشعبي المطلبي في العراق ولبنان لمرحلة سياسية جديدة تستند إلى عموم الشعب كوحدة وطنية شاملة أم سيكون بمثابة صيحة في برية (خصوصا مع غياب البديل الوطني الناضج) وسيتم احتواؤه وتفريغه من محتواه من قبل القابضين على مقاليد السلطة والثروة والقوة والطائفة.