كاتب فهد الشمري
حينما ذهبت إلى مدينة جدة لتقديم واجب العزاء في وفاة الشيخ: علي بن محمد الجميعة رحمه الله ودخلت بيته الذي يقطنه هناك ومات فيه تمثلت قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبياته الشعرية الشهيرة:
إن لله رجالاً فطناً
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
رأوها فلما علموا
أنها ليست لحيٍ وطناً
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفناً
رأيت ذلك المنزل القديم الذي يبدو عليه الطراز المعماري القديم والأثاث الذي لا يوحي إلا أن صاحبه إنسان متواضع ويعرف حق المعرفة ماهية هذه الدنيا وأنها بلا شك ليست داراً لأحد.
الجميعة ذلك الرجل الذي عرفته حائل منذ سنين وهو يقدم كل ما في وسعه لخدمة الوطن والمنطقة على وجه الخصوص وخدمة الجمعيات الخيرية، وخصوصاً جمعيات تحفيظ القرآن الكريم التي كرمته في مواسم عديدة، لأنه كان الرجل الداعم لها في مسيرتها القرآنية طوال السنوات الماضية، ولم تكن هي من يقدم لها الدعم فحسب بل شمل عطاءه أغلب نواحي الحياة المختلفة التي يحتاج إليها الكثير من الناس، ولا شك أن من أكرم كتاب الله وحفظته سيلاقي كرم الضيافة عند ربه ومولاه وأن من فرَّجَّ عن الناس كربة في الدنيا فرَّجَّ الله عنه كربة يوم القيامة.
في حقيقة الأمر يعجز اللسان عن الكلام في شخصية مؤثرة وخيرية بحجم علي الجميعة فلا أدري أأتحدث عن صديق؟ أم عن رجل تاريخ؟ إن جلست معه أدهشك بغزارة علمه ومعرفته بالتاريخ وأنساب القبائل العربية وتاريخ الجزيرة العربية وخصوصاً ما يتعلق بمنطقة حائل التي كان رحمه الله يعتز أيما اعتزاز بانتمائه لتلك المنطقة، ويحبها كما لو كانت جزءاً من شخصيته التي يحملها أمام نفسه وأمام الآخرين، ولعل من جلس معه يلمس فيه ذلك يظن أن عنصريته لحائل تبدو سمة بارزة فيه.
إنني قد لا أبالغ إن قلت إن رحيل مثل هذه الشخصية تعد خسارة كبيرة وعظيمة للوطن ولكل من عرفوه، من كل الطبقات ومن كل الأجناس، ومن قدر له حضور العزاء في جدة سيعلم حقيقة قدر هذا الرجل في نفوس الكثير من الفقراء الذين لم يملكوا سوى عبراتهم التي غطت تلك الوجوه من مواطنين ومقيمين، وكأنهم يدركون أن مجيء شخصية بمثل هذا الشيخ الهمام يحتاج لوقت طويل أو معجزة سماوية قل حدوثها وندر حصولها في زمانٍ بات الجميع فيه منشغلون بأعمالهم ودنياهم.
من رأى الشيخ الجميعة في الفترة الأخيرة من حياته يدرك تماماً أثر الأعمال الخيرة، وأثر الاستقامة، فالرجل الذي أخبرني هو بنفسه أن عمره قارب الخمسة والثمانين، وكان هذا اللقاء قبل حوالي سنة في مزرعته بحائل فالرجل مع تقدمه في السن، وكثرة الأشغال التي ارتبط بها، إلا أنه حينما يحدثك عن أمور الدنيا والدين لا تجد خلطاً في كلامه، أو تخبطاً في أفكاره، فذاك هو وكأنك تتحدث مع شخص في الأربعين من عمره ويحدثك وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمام عينيه.
إن الشيخ علي الجميعة رحمه الله - إن جاز لنا التعبير - هو جمعية خيرية متحركة في هيئة إنسان مد يده لكل محتاج، وقدم المعونات تلو المعونات لكل الأعمال الخيرية والمشاريع التي تخدم الدين والوطن دون كلل أو ملل، فهو بحق جمعية خيرية متحركة جعلته محبوباً عند كل من عرفوه، مألوفاً عند كل من سمع به، وكأنه أراد عبر مسيرته العظيمة التي زادت عن ثلاثة أرباع قرن أن يتمثل قول الشاعر:
إذا دار الزمان ولم تروني
فهذه ذاكرتي فاذكروني
إن الشيخ علي الجميعة قد عرف السر الذي لم يدركه الكثير من الناس، وهو أن رحلة الحياة قصيرة، فاختار أن يقال له عند موته (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، وترك الطريق الثاني الذي لا يحبه الكثير من الناس وهو قوله تعالى (من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربي لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب فأصدق وأكن من الصالحين) فقد قدم رحمه الله ما يجعله في المستوى الأول، ولم ينتظر حتى يقول ما يقوله أصحاب المستوى الثاني، وقد عرف بكرمه وجوده في منطقة حائل حتى ظن البعض من الناس أن حاتماً الطائي لا زال يعيش في تلك المنطقة التي عرف منها الكرم العربي.
رحم الله الشيخ علي الجميعة وأسكنه فسيح جناته وتقبله الله من الصالحين وألحقه بالأنبياء والصديقين، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وصبر الله من عرفه وأحبه على هذه المصيبة و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.