د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
بعدما باتت الصين معجزة عالمية، ولاعباً مركزياً في حركة الاقتصاد العالمي، سواء من حيث النمو، أو التضخم والركود، فإن الصين يضربها اليوم زلزال عنيف، يكاد يذهب بالاستقرار المالي العالمي، ويبدو أنها حلت محل اليابان، عندما ضربت الأزمة المالية جنوب شرق آسيا في منتصف التسعينيات. في الوقت نفسه، لم تعد الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والمالية نفسها التي كانت لها في ذلك الوقت، وإن ظلت قاطرة للاقتصاد العالمي، لكنها قاطرة أقل استحقاقاً للاعتماد عليها.
عنونت صحيفة التايمز البريطانية إحدى صفحاتها بسقوط الصين بعد الاهتزازات التي ضربت الأسواق الصينية، الذي نتج منه تخفيض العملة الصينية اليوان، التي كانت عاملاً رئيسياً في تبخر نحو عشرة تريليونات دولار من أسواق الأسهم في العالم منذ وصول الأزمة لذروتها في يونيو 2015.
الأزمة الصينية ليست بمنأى أو بمعزل عن أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة عام 2008، بسبب أن العالم تماشى مع عمليات الإنقاذ والتسهيل الكمي، ولم يجدوا حلاً لأزمة التمويل التي جفت بسبب الأزمة المالية التي ضربت العالم سوى اللجوء إلى أسعار فائدة منخفضة، وما زالت في بريطانيا منذ عام 2009 عند 0.5 في المائة.
حجة الإبقاء على أسعار فائدة منخفضة عند أدنى مستوياتها منذ 300 سنة على الأقل حتى يتم التأكد من أن الاقتصاد ينمو بوتيرة معقولة؛ لذلك نجد الاحتياطي الأمريكي متردداً حتى الآن في رفع أسعار الفائدة، وخصوصاً بعد الأزمة المالية في الصين. البعض يرى أن استمرار الفائدة منخفضة تطرف يعوق انتعاش الاقتصاد، بل يعتبر البعض أن انخفاض أسعار الفائدة يعتبر مشكلة أكثر من كونه فائدة، بسبب سوء تخصيص رأس المال؛ لأن أسعار الفائدة المنخفضة يشجع الناس على الاقتراض واستثمارها في أشياء ليست ضرورية، أو في استثمارات جيدة، فارتفعت ديون الشركات بعد الأزمة المالية عام 2008 من 26 في المائة إلى 56 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لشركة ماكينزي (بالطبع النموذج الإسلامي نموذج مشاركة لا يعترف بالفائدة وهي مانع جيد أمام ارتفاع الديون، لكن الإدمان على الأموال السهلة منع الدول الغربية بعد الأزمة المالية من تجربة نموذج المشاركة).
الاقتراض يمكن أن يكون انكماشياً، وخصوصاً إذا ما استخدم كأداة في استحداث فائض في العرض، مثلما شجعت الولايات المتحدة القطاع الخاص على الاقتراض من أجل استحداث فائض في كميات النفط المنتجة من الصخري، وترتب على ذلك انهيار أسعار النفط التي تزامنت مع بطء النمو الاقتصادي في أوروبا وفي آسيا مع التعثر الصيني، فاتجهت أسعار النفط نحو الهبوط إلى أقل من 40 دولاراً للبرميل.
بل إن الاقتراض دفع أسواق الأسهم نحو الأعلى نتيجة أن الشركات تعيد شراء أسهمها، مع ديون مقترضة رخيصة لم تكن نفقات رأسمالية، حتى أصبحت أسهم الشركات بتقييمات مرتفعة، بينما تبدو توقعات نمو الأرباح منخفضة في تلك الشركات.
بلغت حجم الديون الصينية حتى منتصف 2014 نحو 28 تريليون دولار مرتفعة من 7 تريليونات دولار عام 2007، وتشكل 282 في المائة إلى الناتج المحلي الإجمالي حسب شركة ماكينزي. الصين الآن تستلهم التجربة البريطانية في الثمانينيات بالتحول من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد خدمي. ففي عام 2014 بلغ نصيب قطاع الخدمات في إجمالي الناتج المحلي الصيني 48.2 في المائة مقابل 42.6 في المائة لقطاع الإنتاج الصناعي والبنية التحتية. واقتصادياً، يعد قطاع الخدمات بمنزلة البنية الأساسية للاستهلاك المحلي؛ فتوفير قطاع صحي وتعليمي أفضل، وضمان سهولة الاتصالات، وتوفير الخدمات المالية الضرورية، كلها عوامل أساسية لتشجيع الطلب الداخلي، وهو ما تستهدف الصين تحقيقه. وتؤيد تلك الإصلاحات الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي؛ حتى تتخلص الصين من اقتصاد يعتمد على الصادرات.
منذ فترة صندوق النقد الدولي والكونغرس الأمريكي يضغطان على الصين منذ سنوات لتحرير عملتها الوطنية؛ لأنهما يعتقدان أن الصين تقيم عملتها بأقل من قيمتها الحقيقية لزيادة الصادرات، بينما فاجأت العالم الصين عندما أقدمت على تخفيض عملتها؛ ما جعل عامل المفاجأة يلعب دوراً مهماً في تفجير الوضع الراهن في سوق العملات الدولية.
الخطوة الصينية ربما تدفع المجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تأجيل قراره برفع سعر الفائدة. ورغم ما تتضمنه خطوة خفض قيمة اليوان من تداعيات سلبية على الدولار وعلى الاقتصاد الأمريكي إلا أن الدولار لن يتأثر كثيراً؛ كونه المعيار الرئيسي للعملات، وبوصفه عملة احتياط، لكن هناك حرباً صامتة، تبدو واضحة في تراجع قيمة الروبل الروسي، والروبية الهندية، على سبيل المثال.
التخفيض لا يهدف فقط للحفاظ على نصيب الصين من التجارة العالمية، بل كذلك نصيبها من الاستثمارات، التي بدأت تخرج الاستثمارات من الصين في الفترة الأخيرة.
منح النفط الصخري والغاز أمريكا موقع الصدارة، بينما تسعى بكين إلى ربط قوتها الاقتصادية بالطموحات الجيوسياسية، سواء من خلال قواعد جوية في الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، أو من خلال صفقات مع باكستان، أو عن طريق الحرير الجديد عبر آسيا الوسطى، أو من خلال إنشاء مؤسسات مالية إقليمية، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، بينما تبقى الفوضى في الشرق الأوسط عرضاً جيوسياسياً جانبياً، عندما توضع على خلفية إعادة ترتيب العلاقات بين القوى العظمى في آسيا.
تُعتبر الصين شبكة واشنطن للتحالفات الثنائية من مخلفات الحرب الباردة، وهي ترى أنه ستأتي اللحظة حينما تسيطر آسيا على شؤونها الجيوسياسية لإخراج الولايات المتحدة من شرق آسيا، التي تعتبرها الصين حقاً لقيادة تلك المنطقة، بينما ترى الولايات المتحدة أولويتها الوجود في شرقي آسيا؛ ما يعني أن سلاماً بارداً ينتظر الولايات المتحدة والصين؛ لذلك تواصل الولايات المتحدة ضغوطها لسرعة التوصل لتوقيع الاتفاقية قبل نهاية فترة أوباما للتجارة عبر المحيط الهادئ، الذي يمثل 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، ويضم 12 دولة إلى جانب الولايات المتحدة، كندا، المكسيك، البيرو، تشيلي، نيوزيلندا، أستراليا، بروناي، فيتنام، اليابان، ماليزيا وسنغافورة.
تباطؤ النمو يعيد تشكيل مراكز القوى في الاقتصاد العالمي. وبعد أن كانت البلدان الرأسمالية عالية التطور تقليدياً هي القاطرة الرئيسية التي تقود الاقتصاد العالمي، وهي الولايات المتحدة وأوربا الغربية واليابان. دخلت منذ نهاية القرن العشرين الصين على خط القوى المؤثرة. ومنذ بداية هذا القرن ظهر مفهوم الاقتصادات الناشئة، كما يجب أن نأخذ في الحسبان الاقتصادات البترولية، بما لديها من تأثير في أسعار النفط، وما تتمتع به من سيولة مالية. أي أن هناك أكثر من مركز يؤثر في الاقتصاد العالمي، مساهمتهم ليست متساوية، ولكن من الواضح الآن أنه لا يوجد مركز واحد قادر بمفرده على إخراج الاقتصاد العالمي من أزمته؛ فلا بد من تحالف أكثر من مركز لحدوث ذلك.