د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يبدو أن أسعار النفط ما زالت تراهن على السير في الاتجاه الهبوطي، ووصلت الأسعار إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2009، عندما كان الاقتصاد العالمي في خضم أزمة مالية ضخمة وركود.
النفط سلعة إستراتيجية تلعب دوراً محورياً مهماً في تحريك الاقتصاد العالمي، بل طفقت سلعة البترول تتخذ دوراً مباشراً في تحريك وقائع الصراعات العالمية منذ عام 1914،
وبعد أن بلغت أسعار النفط 100 دولار للبرميل برزت الحاجة إلى تأمين مصادر الطاقة للعمليات العسكرية والإنتاج الصناعي، وأصبح النفط أحد أهم الأهداف العسكرية وأهم المعايير الرئيسة في رسم الخرائط السياسية والاقتصادية التي تشغل بال المخططين ومراكز البحوث.
منيت أسعار النفط بانخفاض بين عامي 1983-1985 وحاولت الأوبك وضع حصص إنتاج منخفضة إلى مستوى تستقر عنده الأسعار، لكن هذه المحاولة لم تفلح بسبب أن معظم الأعضاء كانوا ينتجون كميات أعلى من حصصهم، ما جعل الأسعار تنهار عام 1986 إلى أقل من 10 دولارات للبرميل.
ارتفعت الأسعار عام 1990 بسبب الإنتاج المنخفض والمخاوف الجيوسياسية التي ارتبطت بغزو العراق الكويت، بعدها دخلت أسعار النفط في انخفاض دائم حتى عام 1994 حتى استعادت الأسعار عافيتها عام 1996، إلا أن هذا التعافي لم يدم طويلاً، إذ ارتبطت بالأزمة الآسيوية في أواخر عامي 1997 و1998 وتحركت أوبك وخفضت إنتاجها 3 ملايين برميل عام 1999 لتصعد الأسعار إلى 25 دولاراً للبرميل، وفي عام 2005 قفزت أسعار النفط بسبب أعاصير وعوامل جيوسياسية إلى مستوى 78 دولاراً للبرميل خصوصاً بعد نمو الاقتصادات الآسيوية.
وفي 11 يوليو 2008 ارتفعت الأسعار إلى مستوى قياسي 147 دولاراً للبرميل، لكن بقيت أسعار النفط مستقرة بعد عام 2012 لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة فوق 100 دولار سمح بدخول النفط الصخري إلى السوق وأسهم في هبوط الأسعار.
بدأت أسعار النفط تنخفض في نوفمبر 2014، عندما قررت أوبك الحفاظ على الإنتاج في مواجهة وفرة في المعروض، ومن غير المتوقع أن يكون هناك تحول في الأسعار، نظراً لظروف السوق الحالية، بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي، من الركود الاقتصادي، وخصوصاً في الصين، التي تعد محركا أساسياً للاقتصاد العالمي.
أثر بشكل مباشر على أسعار النفط، وتراجع طلبات المصانع، وخصوصاً الصادرات، وتراجع أسعار المنتجين إلى أدنى مستوى منذ أكتوبر عام 2009، إضافة إلى التوقعات بتسجيل الصين معدل النمو الأدنى منذ أكثر من عقد من الزمن.
ولا يبدو أن العرض سيتقلص، خصوصاً مع زيادة الإنتاج الأمريكي، كما أفادت شركة بيكر هيوز الأميركية للخدمات النفطية، بأن منصات التنقيب عن النفط في الولايات المتحدة ارتفعت للأسبوع الرابع على التوالي، رغم هبوط الأسعار، وقالت الشركة إن عدد منصات التنقيب عن النفط ارتفع بمقدار 2 إلى 672 حتى 14 أغسطس 2015، واستمرار منظمة الأوبك في تخطي سقف إنتاجها المحدد نظريا بـ 30 مليون برميل يومياً.
مضت ست سنوات على انهيار مصرف ليمان براذرز، واندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، وكانت مسيرة التعافي بطيئة خلال الفترة التي تلتها، ركزت السياسة المالية على تخفيض تكلفة الأموال بالنسبة للمصارف، على أمل أن تقوم المصارف بزيادة الإقراض للشركات خاصة الصغيرة والمتوسطة منها، وهي الفئة الأكبر من حيث عدد الموظفين، والأكبر من حيث عدد فرص العمل.
لم تحقق تلك المصارف الغاية الأساسية من الإقراض، بل اكتفت بتلبية معايير الحد من المخاطر، التي فرضها مصرف التسويات الدولي بي أي إس في بازل، فعدم استثمار المال في الاقتصاد الحقيقي، قد يخلق فقاعة أخرى، قد تتجه نحو العقار، أو نحو سوق المعادن النادرة، وحتى النفط، وقد تكون في سوق الأسهم، وهو ما حدث بالفعل في أغلب أسواق الأسهم العالمية بما فيها الأسهم الخليجية.
ركزت النماذج الاقتصادية بعد الأزمة المالية على الطلب المدفوع بالناتج المحلي الإجمالي، ويعتقد كثير من الاقتصاديين أن النظرية الأكاديمية للنمو الاقتصادي، ونماذج التوازن الاقتصادي كما ترى الولايات المتحدة ما زالت تهمل أو تقلل من دور الطاقة، باعتباره يمثل في الناتج المحلي الإجمالي أقل من 5 في المائة خلال السنوات الـ25 الماضية، بل اعتبرت أن ارتفاع أسعار النفط كان عاملاً مساهماً في الأزمة المالية الأخيرة، وغيرها من أزمات شهدها العالم في السابق.
لذلك اتجهت الولايات المتحدة أخيراً خصوصاً بعد عام 2012 إلى دعم القطاع الخاص من خلال التركيز على الطاقة البديلة وخصوصاً النفط الصخري، لدورها الحيوي، في وضع الاقتصاد على طريق النمو المستدام، فدعمت انخفاض أسعار النفط، من خلال زيادة الإنتاج، وزيادة المخزونات الأميركية، ورغم ارتفاع الدولار أمام عملات الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة منذ يونيو 2014 بنحو 15.7 في المائة، إلا أنه نتيجة هبوط تكلفة منتجات البترول، فإن أسعار الواردات تراجعت في الولايات المتحدة بنحو 9 في المائة في شهر سبتمبر 2015 مقارنة بشهر يناير، كما ارتفعت مبيعات التجزئة 6 في المائة.
ما جعل الصين تتجه نحو تخفيض اليوان من أجل تحفيز النمو الاقتصادي خطوة على الطريق لمنافسة الدولار، وهو أكبر تحرك للعملة الصينية في يوم واحد منذ التسعينيات، وهو ما يشعل المنافسة التجارية الحادة بين الصين والولايات المتحدة.
رغم ذلك تفهمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان هذا القرار، بسبب أن الصين في مرحلة تحول من إستراتيجية التنمية المعتمدة على التصدير للخارج إلى إستراتيجية جديدة تقوم على أساس التنمية عبر زيادة الطلب الاستهلاكي المحلي، كما يبدو أن هناك حرباً صامتة تبدو واضحة في تراجع قيمة الروبل الروسي والروبية الهندية الذين تراهن عليهم الولايات المتحدة لمواجهة الصين.
تدرك السعودية التي تتبع إستراتيجية أليمة في الحفاظ على حصصها السوقية، رغم أنها تؤثر على موازين دول الخليج، ولن تتمكن الشركات النفطية الأمريكية أن تتجاهل انخفاض الأسعار لفترة طويلة، وإن تزايد الإنتاج والحفارات في الفترة السابقة، وهو أمر عارض، ولن تستطيع الاستمرار طويلاً، وهو ما يجعل الولايات المتحدة بأن تترك الأسعار تنخفض كثيراً، عن طريق التحكم في المخزونات، واتجهت نحو تخفيض الإنتاج الصخري بنحو 70 ألف برميل يومياً منتصف أغسطس، جعلت أسعار النفط تواصل تصحيح الأسعار، وهي تعاكس توقعات العديد من المحللين النفطيين بأن تصل الأسعار إلى 30 دولاراً، لأن وصول الأسعار إلى 30 دولاراً يعرض شركاتها لخسائر ضخمة، وفي الوقت نفسه خسر المراهنون قبل أكثر من عام رهانهم بأن تستمر أسعار النفط عند سعر 100 دولار سنوات قادمة ولم يتوقعوا دخول النفط الصخري ويغير من معادلة الأسعار.
بالطبع ينصح صندوق النقد الدولي بشكل خاص السعودية باعتبارها أكبر دولة خليجية، إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية تدريجية كبيرة على أوضاع المالية العامة، على مدار سنوات عدة، من خلال استخدام مزيج من التدابير على جانبي الإيرادات والنفقات، الذي من شأنه أن يحدث عجزاً في المالية العامة هذا العام وعلى المدى المتوسط.
وحدد صندوق النقد الدولي هذه الإجراءات، مثل إصلاحات أسعار الطاقة، علاوة على أحكام السيطرة على فاتورة الأجور في القطاع العام، وتوسيع نطاق الإيرادات غير النفطية، من خلال استحداث ضريبة القيمة المضافة، وضريبة على الأراضي.
دول الخليج لديها مستشارون كذلك، وتدرك حجم خطورة انخفاض أسعار النفط على موازينها، ووضعت خططت لتنويع مصادر دخلها منذ زمن طويل، وهي تستند إلى جدر حماية لتغطية العجوزات في موازينها، ومواصلة الإنفاق على مشاريعها التنموية والرأسمالية التي تدعم تنويع مصادر دخلها.
تمتلك دولة الإمارات أموال سيادية تتجاوز تريليون دولار، بينما تبلغ الأموال السيادية في السعودية 659.3 مليار دولار في يونيو 2015، وتمتلك الكويت 410 مليار دولار حسب إحصاءات 2014.
عملاقا الصناعة في السعودية أرامكو وسابك يقودان مرحلة التحول الاقتصادي في السعودية، وستنفق أرامكو أكثر من 100 مليار دولار في السنوات العشر المقبلة، من أجل التكرير والتوزيع، حتى تصل الطاقة التكريرية لأرامكو ما بين ثمانية وعشرة ملايين برميل يومياً خلال السنوات المقبلة، بينما هي تمتلك وحدات بشكل كامل أو جزئي مصافي تكرير محلية وأجنبية طاقتها الإجمالية 4.9 ملايين برميل يومياً، حصة أرامكو منها 2.6 مليون برميل يومياً ما يجعلها سادس أكبر شركة تكرير في العالم.
وصدرت منطقة الخليج خلال العقود الثلاثة الماضية بصورة أساسية سلعاً بتروكيماوية منخفضة القيمة، بينما تعمل الشركة مع شركائها على تطوير اثنتين من المناطق الصناعية المضيفة للقيمة، إحداهما في رابغ على ساحل البحر الأحمر، والأخرى في مدينة الجبيل الصناعية على الخليج العربي، اللتين جذبتا بالفعل عشرات المستثمرين في المجالات ذات القيمة المضافة العالية.
بل إن مستقبل المنطقة العربية مرهون بتحقيق نهضة اقتصادية يقودها الخليج، خصوصاً أن لدى دول الخليج قاعدة اقتصادية قوية ومتنوعة، وتمتلك رؤية اقتصادية عربية واضحة، وإطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة، واستغلال الموارد البشرية والطبيعية بشكل أكثر فاعلية، وهي تدرك أن التنمية المستدامة، هي التنمية الحقيقية، وهي الضمان الرئيس لاستقرار المنطقة.
إذ إن حجم الناتج المحلي لدول الخليج لعام 2013 بلغت 1.6 تريليون دولار، يبلغ الناتج المحلي السعودي 745 مليار دولار بنسبة 46 في المائة، ثم دولة الإمارات بـ 394 مليار دولار بنسبة 24 في المائة، فقطر بـ 205 مليار دولار بنسبة 13 في المائة، يلي قطر الكويت بـ 183 مليار دولار بنسبة 11 في المائة، فعمان ب 80 مليار دولار بنسبة 5 في المائة، وأخيراً دولة البحرين بـ 12 مليار دولار بنسبة 1 في المائة.
كما أن القطاع الخاص في دول الخليج قطاع كبير ومهم، ويمثل الحصة الأكبر في الاقتصاد، يسهم بشكل كبير في تطبيق سياسة التنويع الاقتصادي الذي تنشده دول الخليج، فهناك 20 ألف شركة عائلية في دول الخليج يبلغ إجمالي استثماراتها المحلية والعالمية 2.75 تريليون دولار، حيث تصل استثماراتها المحلية 750 مليار دولار تشكل 70 في المائة من حجم الاقتصاد الخليجي غير النفطي، وتوظف 15 مليون عامل مواطن وأجنبي.