د. محمد البشر
أبو عبدالله الصغير آخر حكام غرناطة الأندلسية كان كبش فداء لأخطاء متراكمة عبر سنين عديدة من التاريخ الأندلسي, المليء بالإيجابيات والسلبيات، والمماحكات، والاقتتال الداخلي، حمل أبو عبدالله الصغير نتائج تلك الأخطاء المتراكمة، التي أدت إلى فقد فردوس إسلامي أضاء لأوروبا الطريق، ومهد لها بناء هذه الحضارة السائدة الآن.
تمت مفاوضات تسليم غرناطة في الخفاء، وكان العضوان البارزان في المفاوضات هما أبو القاسم عبدالملك، والوزير يوسف بن كماشة، أما أبو القاسم فلم يسطر لنا التاريخ عنه الكثير، ولم يعرف مكانه على وجه التحديد، وكل أدلى بدلوه فيه، بينما الوزير يوسف بن كماشة تنصر بعد سقوط غرناطة، وعاش مكرماً من قبل الفاتحين الجديدين، الملكين الكاثوليكيين، فرناندو وايزابيلا.
واسمه يذكرني بما قاله لسان الدين بن الخطيب، في أحد أجداده المعاصرين لذلك السفير، الوزير، الهجاء أحياناً، حيث يقول:
قيل لي ماتت فراشـة
من بخـار بن كماشـه
أحرزت أجر شهيد
ناله الطعن وناشـه
رحمة الله ورضـوان
على تـلك الفـراشة
بعد أن قضي الأمر، وانتهت المفاوضات بسرية تامة، ودون علم الخاصة والعامة، جمع حاكم غرناطة أبو عبدالله الصغير الفقهاء، وكبراء القوم، في بهو الحمراء الكبير، وحدثت مناقشات طويلة عاصفة، كانت الغلبة فيها لأبي عبدالله الصغير وجناحه، وتمت الموافقة على المعاهدة، دون تغيير، وكان مندوب حاكم قشتالة «فرناندو دي نيفارا»، قد أدخل سراً إلى القصر، فحمل معه المعاهدة، مُوافقاً عليها من الحاكم، وتم الأمر.
وقد أوردت لنا الروايات القشتالية قصة قائد غرناطي، كان حاضراً لتلك الجلسة العاصفة، واسمه موسى بن ابي غسان، وهي مؤشر على السخط من المعاهدة، والرفض لها من قبل بعض القادة والأبطال.
فقد كان منظر الفقهاء والأكابر بعد التوقيع يدعو للرثاء، حيث أجهشوا بالبكاء والعويل، لكن موسى البطل، بقي ساخطاً عابساً، ثم صاح بالقوم قائلاً (أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدموع، ولكن لتقطر الدماء، واني أرى روح الشعب قد خبت، حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة مجال للنفوس النبيلة، ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حريتنا، وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمتنا، غيورين من أبنائها متحررين من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها). ثم صمت هذا البطل، وبقي عابساً، ولم ينطق أحد بكلمة، كأن على رؤوسهم الطير، وعندما قرأ اليأس في عيونهم، صاح ابو عبدالله حاكم غرناطة قائلاً (الله أكبر، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله، تالله لقد كتب علي أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يدي). وتبعه الأعوان من الفقهاء، والوجهاء، والمتزلقين، قائلين (الله أكبر، ولا راد لقضاء الله، إنها إرادة الله ولتكن، وإنه لا مفر من قضائه ولا مهرب). وقال أحدهم (إن شروط ملك النصارى، أفضل ما يمكن الحصول عليه). فلما رأى موسى ابن ابي غسان أن اعتراضه لا يجدي، وأن أكابر القوم وفقهائهم قد وافقوا على معاهدة التسليم، نهض واستوى قائماً ورفع صوته قائلاً (لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا، وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك أعراض نسائنا وبناتنا, وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والانطاع والمحارق، وهذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه). ثم غادر المجلس مخترقاً بهو القصر، وذهب إلى منزله، وغطى جسمه بسلاحه، برهة من الزمن، ثم قام وحمل سلاحه، وامتطى صهوة جواده، فلقيته سرية من فرسان النصارى، مكونة من خمسة عشر فارساً، فطلبوا منه الوقوف، فلم يجب، ووثب من فوق ظهر الجواد، مخرجاً سيفه من غمده، ومعه رمحه، فأخذ في طعنهم، واثخن فيهم، حتى قتل منهم الكثير، وكأنما يحارب للانتقام، ويريد أن يُقتل، لأنه لا يرغب أن يعيش ليرى نساء وبنات غرناطة سبايا في يد العد، لكنه في نهاية الأمر أصيب برمح، سبب له جرحاً غائراً، فسقط من جواده، وواصل قتاله البطولي، ودمه ينزف حتى خارت قواه، فتكالب عليه القوم، فمات في ساحة الوغى شريفاً، كما كان شريفاً في موقفه أمام حاكم غرناطة أبي عبدالله الصغير.
لقد كان رأي ذلك الفارس صائباً، فلم يف الملكان بالعهد، ولم يطبقا المعاهدة، وذاق أهل غرناطة الأمرين، وأجبروا على التنصر بعد تسع سنوات من السقوط، وتم استرقاق البعض، وبعد أربعين عاماً تم طرد البعض، وبعد مائة عام من السقوط تم طرد حتى أولئك المتنصرين، فكانت مأساة من أعظم المآسي التي سطرها التاريخ.