د. جاسر الحربش
مدخل: لديَّ وطن أحتمي به وأريد أن يبقى سليماً معافى لأولادي وأحفادي، ومن لا وطن له يصبح متسولاً على أبواب الآخرين. الكتابة في موضوع زاوية اليوم مساهمة توجبها الفترة التاريخية علينا كمواطنين وحكومة ودولة، أي كوطن يحتضن كل هذه المكونات، إن انفرط انفرطت جميعها وضاعت، والأمثلة من حولنا شهود عيان.
المفكرون العظماء، ومن ضمنهم رجال الصحافة الكبار، يستمرون على إخلاصهم لقضيتهم الأساسية ويتحولون مع التقدم في السن وتراكم التجارب والمقابلات والحوارات إلى منجم خبرة ذهبي لأوطانهم. الأمثلة على ذلك كثيرة، من المؤرخين آرنولد توينبي، باول كينيدي، جمال حمدان، عبدالوهاب المسيري، صادق جلال العظمة، وصولاً إلى رجال الصحافة والإعلام الملتزمين بقضايا بلدانهم الحقوقية والوطنية. هؤلاء أعدادهم كبيرة لكنها لا تشمل، عربياً، عدداً مقنعاً أسترجعه من الذاكرة ويستحق لقب الكبير الملتزم.
بهذا المدخل أريد أن أقول إن المفكر والإعلامي والصحفي الذي استطاع اكتساب هالة من الشهرة فوق رأسه من خلال أدائه أثناء الشباب وأواسط العمر، من المفترض أن يتحول إلى خير ناصح لأمته ولقضيته الوطنية الأولى، فهي التي مكنته من وضع هالة الشهرة على رأسه. يصبح الأمر مفجعاً وغير منطقي عندما يتحول من كان يعتبر من هذا الطراز في بداياته وأواسط عمره، إلى مثبط وطاعن مرتد عن قضيته الوطنية الأولى في الثلث الأخير من عمره وحياته الفكرية أو الصحافية.
الحديث هنا عن الصحفي المعروف المصري (العروبي سابقاً) محمد حسنين هيكل. السيد هيكل بدأ سيرته العملية مراسلاً صحفياً نشطاً من ميادين الحرب (الحرب الكورية)، ثم تحول إلى نجم إعلامي لامع في الحقبة الناصرية، ثم انتهى به المطاف عند خصومه السابقين إلى تصنيف «المفكر الزعيم والمحلل الإستراتيجي الكبير»، ولكن هذا التصنيف مغموس بالشعوبية ومسألة فيها نظر، وبالتحديد حين تحول تنظيره الفكري والإستراتيجي إلى ردة واضحة عن قضيته الأولى العروبة والوحدة والمصير المشترك.
المرحوم جمال عبدالناصر كان يطمح إلى توحيد العالم العربي تحت زعامة مصر، لكنه غرق في التفاصيل السياسية والثقافية والجغرافية ولعبة الأمم. أكثر من ساهم في تشويه التفاصيل له كانوا من الدائرة المحيطة به.. هل كان للصحفي هيكل أيام عبدالناصر ماهو أكثر من تحضير رؤوس الأقلام لخطب الرئيس وكتابة العمود السياسي في الصحيفة الرسمية؟. كان محمد حسنين هيكل القديم اللسان والقلم للعروبة والوحدة في مشروع دولته، والسؤال هو هل كان في تلك الأيام يعبر عن قناعات وطنية وفكرية، أم أنه كان موظفاً مجتهداً يريد أن يعيش ويكسب ويلمع إعلامياً، وبعد ذلك لكل حادث حديث؟.
القضايا الكبرى، ومنها الانتماء لأمة وحضارة واحدة ولمشروع نهضة مشترك تتطلب الثبات وتحمل المعاناة والنزول إلى درجات أدنى في السلم المعيشي والاجتماعي، وهذه مهمة لا يتحملها سوى تلك الشخصيات التاريخية من أولي العزم. هيكل حسب البداية والنهاية لم يكن منهم، بل من المتشبثين بالأضواء والشهرة والجاه والمال. لو أن هيكل ثبت على قناعاته الأولى بعد وفاة جمال عبدالناصر، والتزم بالإخلاص أهله وعروبته، لكان أدرك المال فقط. الشهرة والجاه والأضواء العالمية لم تكن لتتوفر له، والرجل شديد الشبه بالممثل الراحل عمر الشريف، الذي طلق زوجته وأهله ومصر بالكامل، ولما خفتت عنه الأضواء في الغربة عاد ومات عند أهله.
الصحفي اللامع الشاب محمد حسنين هيكل انقلب على عقبيه بعد وفاة رئيسه وولي نعمته وشهرته. الانسلاخ الذي مر به حصل على مراحل، كان في البداية خجولاً بطيئاً ثم تسارع حتى انتهى الرجل العروبي الوحدوي إلى إقليمي مصري فقط، ثم في النهاية إلى مداهن وبوق لكل دولة ذات أجندة صريحة مضادة لمشروع زعيمه الراحل ومضادة للجغرافيا العربية والتاريخ ولفكرة المصير العربي المشترك من الأساس.
كان من الواضح لرجل مثل هيكل، ذكي ومحترف ويعرف من أين تؤتى الكتف، أن الردة عن مبادىء عبدالناصر بعد وفاته سوف تفتح للصحفي الرسمي السابق أبواباً واسعة لم يكن ليجرؤ على الاقتراب منها عندما كان زعيمه على قيد الحياة.
من خلال هذه الردة المروعة أصبح هيكل يدخل ويخرج كما يريد إلى دهاليز صناع الرأي والسياسة، الأمريكيين والبريطانيين تحديداً، ويبدو أن هذه المرحلة أوشكت على النهاية بالتقادم وفقدان الأهمية. بعد انتهاء الصلاحية ألقى العروبي الوحدوي القديم بما تبقى من شيخوخته في أحضان أجندة عنصرية أخرى هي الأشد بغضاً للعنصر العربي، أعني دولة الملالي في إيران، رغم استحضار هيكل بذاكرته الحديدية أن جمال عبدالناصر كان يحذر العرب من أطماع إيران وتركيا بالإضافة إلى إسرائيل والغرب.
المتتبع للتحولات الهيكلية العجيبة يستطيع بسهولة المتجرد من الحكم المسبق الاستنتاج أن هيكل العجوز فقد عواطفه العربية القديمة ودخل في مواجهة صريحة مع الإنسان والجغرافيا العربية، لصالح أعداء صريحي العداء لهم مشروع توسعي معلن. تحول السيد هيكل إلى ديناصور عجوز يدافع عن المشروع الإيراني وزوائده الدودية المعروفة في المنطقة. ليت هيكل اكتفى بذلك ولم يزد بتحقير ومهاجمة عرب الجزيرة العربية جملة وتفصيلاً، ليس فقط الحكومات التي يحملها فشل المشروع الناصري، بل وبما يشمل الشعوب والثقافة الصحراوية وكل ما يمت بصلة لجزيرة العرب.
بالنسبة للأستاذ الزعيم، كما يوسوس الشعوبيون له، أصبحت منطقة القلب من العروبة في أدبيات هيكل مجرد تجمعات بدوية تفتقد إلى أية مساهمة حضارية في تاريخ العالم ولا يرتجى ذلك منها في المستقبل.
قبل ختام الحلقة الأولى في هذا الموضوع أود تذكير القراء الكرام بمقال قديم لي نشر في هذا المكان بتاريخ 22-4-2015م تحت عنوان: (دور هذه الصحراء في تاريخ العالم). للموضوع حسب النية تكملة بعد يومين -إن شاء الله-.