د. جاسر الحربش
في ليلة الجمعة التاسع من رمضان الماضي عشت ساعة انسجام ممتعة مع المفكر العماني جواد صادق سليمان ومحاوره اللامع سليمان الهتلان، وهما يتبادلان السؤال والجواب في برنامج حديث الخليج. قال المفكر العماني الكثير، وكله في سياق الكلام المفيد الصادر من عقل يتسم بالوقار والهدوء، تلك الصفات المعجونة عادة بحكمة التفرغ لدراسة طبائع البشر ومنابعها ومآلاتها الإيجابية والسلبية. من الكثير الذي قاله المفكر العماني الفاضل أتعرض هنا لجملتين فقط.
الجملة الأولى : الحضارات لا تتصادم، بل تتلاقح وتأخذ وتعطي مع بعضها، لكن الغرائز والمذاهب والعقائد هي التي تجعل البشر تتصادم.
الجملة الثانية : هناك خلل في النفس البشرية، لأنها تبالغ في إشباع الرغبات، بمعنى أن هذا الخلل جعل الإنسان يستهلك نفسه وموارده ووقته لإشباع نزواته الإستهلاكية.
بعد نهاية الحوار حاولت ربط الجملتين، أولا ً في سببية واحدة هي الغرائز، وثانيا ً محاولة تفكيك ما قد يربط أو يفصل بين الحضارات والعقائد والمذاهب والغرائز . تمنيت لو كنت طرفاً ثالثاً في الحوار لأسأل السيد جواد صادق سليمان عن امكانية الحاق العقائد في أصولها الأولى بالحضارات، وفصل المذاهب والحاقها بالغرائز، وخصوصا ً في قدرتها وتركيزها على تحوير فهم النصوص الأصلية إلى مفاصلات سياسية واجتماعية لتحقيق مكاسب شخصية.
على سبيل المثال، الحضارات لا ترفض جمع عشرات ومئات العقول في مجهود علمي واحد لاكتشاف الأسرار البيولوجية للخلية الحية أو أسرار بعض الأجرام السماوية، ولا تشترط أن يكون أصحاب العقول المتشاركة على عقيدة تعبدية واحدة . الحضارة تتطلب التجرد والإخلاص للهدف العلمي (Science Ideology)، ولا دخل لها كعلم مجرد في علاقة الباحث التعبدية والإيمانية. المركز العلمي باهتماماته في دولة ما يمتلك دائما ً قنوات مفتوحة لتبادل المعلومات والنتائج مع المراكز ذات الإهتمامات المتشابهة في دول أخرى. العلماء يتبادلون المؤتمرات العلمية واللقاءات والمراسلات، ولا أحد يهتم بعقائد زملائه، لا في مركزه الخاص ولا في مراكز الدول الأخرى.
هنا وعلى مر التاريخ نكتشف إمكانية التمازج العلمي المجدد للحضارات مع احترام العقائد في حالة تقبل وتعايش. ذلك ما حصل قديما ً في جامعات بغداد وبخارى وسمرقند ودمشق والقاهرة وغرناطة واشبيلية وروما والبندقية وبادوا، بين العلماء المسلمين والنصارى واليهود. وهذا ما يحدث الآن بين علماء أمريكا وروسيا والصين وأوروبا والهند واليابان وماليزيا وسنغافورة، إلى آخر المنظومات العلمية الحقيقية التي تعمل لصالح العلم المجرد.
ثم يأتي العامل المذهبي والقومي العنصري ليخلط الأوراق ويعجن مفاهيم الحضارة والعقائد ليمذهبها ويؤدلجها ويحولها إلى خلطة متفجرة من الغرائز العدوانية المدمرة. قناعتي الشخصية هي أن الحضارات تتبادل إنجازاتها العلمية كما أن العقائد في نصوصها ومقاصدها الأولى تؤسس لحرية الإنسان التعبدية كشرط للتعامل والتعايش وحصانة النفس والعرض والمال، وبذلك تلتقي الحضارات مع العقائد في الأهداف.
المأساة تسببها الغرائز البشرية، بما تفعله في المنجزات الحضارية والنصوص العقائدية، لتحويلها إلى أدوات قتل وتدمير. علينا أن نتذكر أن المنجزات الحضارية تكاملية وأن العقائد هويات تعارفية، بينما المذاهب والتصنيفات اجتهادات تفاضلية لا تصلح لتكوين هويات تعارفية تعايشية بأي معنى إنساني شامل.