د. جاسر الحربش
أتحدث عن سنغافورة، كنموذج سابق للفساد والتخلف ونموذج لاحق للنزاهة والتطور. بتخطيط وعزم رجل قيادي عرف كيف يستفيد من القلة المتبقية في بلده من المخلصين، انتقلت سنغافورة من بؤس العالم الثالث إلى استقرار العالم الأول. يقول قائد النهضة السنغافورية لي كوان يو: لا يمكن تصور إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينيات بائسة، فقر ومرض وفساد وجريمة، مناصب الدولة تعطى لمن يدفع ورجال الأمن يسلمون الصغيرات المختطفات إلى دعارة الأجانب، يتقاسمون مع المومسات واللصوص ما يجمعون من الأموال. احتكر الأغنياء الأراضي والمحاصيل ووجدوا بين القضاة من يحكمون لصالحهم. قال لي جميع المتذمرين من الأوضاع الإصلاح مستحيل، لكنني التفت أولا إلى المعلمين الوطنيين رغم تدني تقديرهم الاجتماعي وأجورهم فمنحتهم أعلى الأجور وقلت لهم أنا أبني لكم أجهزة الدولة وأنتم تكفلوا لي ببناء الإنسان. انتهى
الوصفة السنغافورية ما زالت نفسها، للقفز من جحور الأرانب المستهدفة إلى مصائد النمور. وصفة التطور لا تتغير، تمكين أصحاب العقول المستنيرة من بناء الإنسان وتركيز الدولة على بناء المؤسسات والأجهزة النظيفة والشفافة.
لو طرح سؤال النهضة على أي قائد حقق نهضة في وطنه عن سر النجاح لأعطى نفس جواب لي كوان يو. في كوريا الجنوبية الناجحة كان سنجمان ري، يقابله في كوريا الشمالية الفاشلة الدكتاتور كيم إل سونج، وفي ماليزيا مهاتير محمد مقابل ورثة الاستعمار التقليديين، وفي تركيا تورجوت أوزال قائد التحديث التركي الحقيقي والتنمية مقابل الأتاتوركية العسكرية، وفي البرازيل الرئيس الشعبي لويولا مقابل الزعامات الحزبية الغارقة في الرشوة والفساد.
في كل هذه الدول التي حققت قفزات النمور كان الاهتمام الأول موجها لتنظيف أجهزة الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والبحثية والإنتاجية بمعلمين جدد. ثمة فارق جوهري واحد أصبح الآن أكثر إلحاحا، هو فارق الفسحة الزمنية. أعداد السكان في كل الأوطان تتزايد، ونسبة الشباب صارت أغلبية بما يترتب على ذلك من حقوق لهم مقابل ما يتوقع منهم، وقدرة الشعوب على مقارنة وضع بوضع رفعت من الطموحات المشروعة وفوق ذلك أصبح الميدان مزدحما بالدول المتسابقة لتحقيق قفزاتها التنموية الخاصة. بالمختصر المفيد لم يعد الوقت يسمح بالترميم هنا وهناك.
ملاحظة: أزف للقراء الكرام المتابعين بشرى اقتصار زاوية إلى الأمام على يوم الاثنين للأسابيع الأربعة المقبلة، بسبب ظروف الإجازة العائلية السنوية.