اختتم مجلس وزراء الإعلام العرب، أعمال دورته الـ46 في جو سيطر عليه التركيز على أبعاد الرسالة الإعلامية أو «الجانب الفكري» لصناعة الإعلام وهو الجانب الذي طرحته دولة الإمارات العربية المتحدة حول «دور الإعلام في نشر قيم التسامح ومكافحة التطرف».
وهذا التخصيص للرسالة الإعلامية أو أهمية طبيعة الرسالة التي يحملها الإعلام العربي اليوم يُشير إلى أهمية الإعلام اليوم في مساندة الحكومات العربية في حربها ضد التطرف والإرهاب، دوره في نشر ذلك التطرف والإرهاب، كما يُشير إلى الواجب المُوكٍل إلى الإعلام العربي لنشر قيم التسامح والتعايش الطيب بين المختلفين، فالتغير والتغيير لن يتحققا اليوم بقوة الفرض والإجبار، إنما بقوة الفكر والإقناع والحوار، وكلما اتسعت طاولة الحوار تقاربت القلوب والأفكار. كما أكَّد مجلس وزراء الإعلام على «ضرورة بناء إستراتيجية إعلامية لنشر ثقافة التسامح ومكافحة التطرف» من خلال عدة إجراءات منها؛ بناء رأي عام مساند لقيم التسامح نظريًا وتطبيقيًّا على مستوى الأفراد والجماعات، وتعزيز التواصل والحوار بين الشعوب العربية والإسلامية والشعوب الأخرى»، و» عبر
التعريف بالجوانب السمحة للحضارة العربية الإسلامية التي تتنافي مع ممارسات التعصب والإرهاب والتطرف، «والتركيز على «استقطاب الشخصيات والمؤسسات المؤثرة في الغرب للتفاعل مع المجتمعات العربية من خلال المؤتمرات والبحوث والدراسات».
ونلاحظ من خلال ما أكَّده مجلس وزراء الإعلام أننا أمام «مشروع عربي قومي لإعادة تأهيل الفكر العربي والخطاب الديني»، وهو مشروع بلا شك يحتاج أكثر من «قرار في دورة» يحتاج إلى تغيير مفاصل الخطاب التربوي والديني والتعليمي والثقافي والاجتماعي والعرفيّ في المجتمعات العربية ووفق وحدة عربية تنطلق منها تفاصيل تلك الخطابات. ودعا كذلك المجلس «إلى إطلاق برامج تأهيل وتدريب إعلامي فكري للإعلاميين لتمكينهم من التفاعل الناجح مع قضايا الفكر المتطرف، وتعديل المناهج الجامعية في الإعلام والاتصال لتتضمن مفردات لها دلالاتها في نشر قيم التسامح ومكافحة التطرف. وضرورة إنشاء مراصد إعلامية لمتابعة التغطيات الإعلامية العربية والعالمية للفكر المتطرف، واتجاهات الرأي العام بناء على منهجيات تحليلية حديثة»..
ومن الجميل وما يؤدي إلى الفخر أن تتصدر «جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية» مصادر الخبرة والتنسيق فيما يتعلق بالإستراتيجية الإعلامية العربية المشتركة لمكافحة الإرهاب.
أصبحت الشخصية العربية اليوم تتشكل وفق نوعين من الإعلام؛ الإعلام الحكومي والإعلام الخاص، ولو قربنا لتكبير القول السابق لقلنا يفوز الإعلام الخاص في صناعة جزء كبير من تلك الشخصية.
ولعل القول المؤلم ها هنا أن الإعلام الحكومي اليوم فقد أو أوشك على ذلك منافسة متكافئة مع الإعلام الخاص، سواء على مستوى الصناعة أو المضمون أو القدرة على استقطاب الرأي العام، ليُسلم المتلقي العربي إلى إعلام خاص ضرره أكثر من فائدته؛ على الأقل من وجهة نظر خبراء التربية والتثقيف والتعليم؛ لأنه إعلام يهدف إلى الربح والمكسب. بصرف النظر عن «تحقيق قيمة مقصودة» أو مُخطط لها.
ولعل لهذا التراخي للإعلام الحكومي مقابل الإعلام الخاص الذي أفقده المنافسة المتكافئة أسبابه التي تعود إلى غياب الرؤية والإستراتيجية التنموية للإعلام العربي الحكومي إضافة إلى ضعف الميزانية المخصصة للإعلام الحكومي، وعدم رغبة الإعلام الحكومي العربي في خوض منافسة حقيقية مع الإعلام الخاص، وأهمية تلك المنافسة هي استقطاب المتلقي العربي بذات جودة الإعلام الخاص، لكن غياب رغبة الإعلام الحكومي في خوص منافسة حقيقية لاستقطاب المتلقي العربي وبطئ تطوير صناعته إضافة إلى تقليدية النهج الإعلامي المُقدّم دفع المتلقي العربي إلى العزوف عن الإعلام الحكومي إذا أصبح الإعلام الحكومي تدريجيًا مرتبطًا بمتابعة البيانات الحكومية فقط، فخرج عن دائرة التصديق والتأثير، إضافة إلى الاعتقاد السائد لدى المتلقي العربي بأن ما يقدم من بيانات ومعلومات من خلال الإعلام الحكومي كذبه أكثر من صدقه.
وتلك الأسباب هي التي تجعل الإعلام الخاص يستغل استقطاب المواطن العربي وبالتالي توجيهه بالطرق المتفقة مع مصالحه أو مصالح من يملكه من رأسمال الأيديولوجي، لنشر أو ترسيخ أيديولوجيات تتناقض أو تهدد أو تُفتت الإيديولوجية المحلية والقومية، من خلال تقديم خدمات إعلامية بطرق عالية الجودة والتشويق تضغط على الغرائز أو الخلافات أو الاحتياجات لتستقطب المتلقي وغالبًا ما «تمزج له السم في العسل».
عندما نتحدث عن الإعلام فنحن نتحدث عنه كونه من إحدى الركائز المؤثرة في تشكيل فكر ووجدان وسلوك المواطنين، وتلك المساهمة المؤثِرة سواء في حدّها الإيجابي أو السلبي هي التي تجعلنا دومًا نسلط «مرآة المكاشفة والمساءلة» لرسائله ونوع المكتسب المحقق وما يحتويه من قيم أو فوائد تراعي أصول الرسالة الإعلامية وما يحتويه من غيرها تتناقض مع وظيفته الرئيسة أو مهدِدة لسلامة المجتمع، أو مُروّجة لضرر فردي أو جماعي فكري أو سلوكي أو معتقديّ، أو مُحرضة لتوسيع خلاف أو صراع.
يتربى المواطن العربي سواء من خلال أسرته أو مدرسته أو الإعلام الحكومي على الصوت الواحد والرأي الواحد والمعتقد الواحد كما يتربى على ثوابت خاصة بالأخلاق والواجبات والحقوق والحريات.
وتلك الأحادية ليست مذمومة المقام على الدوام والعكس يسير على منوال القياس السابق. وما يُذّم في تلك الأحادية وفي كل أحادية هو احتكار الأحادية لمعايير الثوابت؛ الصحة والحق والخير، مما يصنع لتلك المعايير تعريفات مفردة.
ثم يأتي دور «الإعلام الخاص» الذي يتصف بالتعددية الفكرية والأخلاقية والسلوكية، وهي تعددية تعتمد على طبيعة أيديولوجية رأسمال وتلك التعددية أول ما تصطدم سوف تصطدم مع الأحادية التي تربى عليها المتلقي العربي، وغالبًا ما يكون حاصل تلك الصدمة هو «التطرف بالقبض أو الانفلات».
والتطرف غالبًا «ردة فعل فكرية» أكثر من كونه «منهجًا فكريًا» يعتمد على مجموع المفاهيم والأفكار والقيم التي تعود عليها المتلقي بالتربية والتكرار، وخطورة الإعلام هنا هو استغلال ذلك التطرف»ردة الفعل الفكرية» لتحويله إلى منهج فكري، من خلال العديد من الأساليب مثل التركيز على نقاط الصراع والخلاف، الضغط الوجداني على العاطفة الدينية للمتلقي ليّصدّر له أحكام الإقصاء والتكفير، الاعتماد على «النجم الإعلامي» أو «صناعة نجوم الإعلام» وتلك النجومية ضمان كافٍ لتحصيل التصديق والتأثير. تعتمد النظرية الإعلامية سواء المرئية أو المقروءة أو المسموعة على «مبدأ الأخبار» الذي يتضمن «تقديم بيانات مفصلة عن واقع المتلقي» كما يتضمن «تحليل بياني لحالة المجتمعات الأخرى».
ويتم تقديم تلك البيانات وتحليلها من خلال أشكالها المختلفة على «تقديم الخدمات الإعلامية التوأصلية» للمتلقي في أي مكان، وتلك الخدمات تهدف جانبين؛ الجانب المعرفي بمشتقاته المختلفة وهو الجانب المهمش سواء في الإعلام الحكومي أو الخاص، ولعل دورة مجلس وزراء الإعلام «46» التي ركزت على الجانب الفكري أعطت الجانب المعرفي للإعلام «قيمة كانت غائبة» في ضجيج اهتمام الإعلام العربي الخاص بالجانب الترفيهي بمشتقاته المختلفة، أو الجانب التحريضي التطرفي، أو تسطيح الإعلام الحكومي لقضايا فكرية مصيرية تحت شعار «فتنة الرأي الآخر». والخدمات الإعلامية تقوم على الموقف التواصلي «المرسِل والرسالة والمستقبل».
ويتميز ذلك الموقف التواصلي بالقصدية والتسويقية، وهو ما يحوّل الخدمة الإعلامية إلى مُنتج ذي «بعد تجاري استثماري» سواء عن طريق استغلال غرائز المتلقي أو مشكلاته أو طموحاته أو صراعاته أو اختلافاته ومن هنا أصبح لدينا إعلام الأكثرية وإعلام الأقلية وإعلام الغرائز وإعلام التحريض والفتنة وإعلام الإرهاب، وخصوصًا في غياب رؤية واضحة وموضوعية لميثاق الشرف الإعلامي، أو الاستهانة بتطبيقه.
إن المجتمعات العربية اليوم تمرّ بأزمة فكرية ليس على مستوى غياب التسامح الديني والفكري وتصاعد للفكر التحريضي والتطرفي والانقلابي بل وعلى المستوى التدني الأخلاقي الذي يهدد أصالة الهوية العربية وقيمها، ولهذا فالتحدي الذي تخوصه وسائل الإعلام العربي هو إعادة تأهيل فكر وسلوك المواطن العربي من جانب، وحماية أصالة الهوية الفكرية والأخلاقية للمواطن العربي من جانب آخر، وهو أمر كما أكَّد الدكتور عادل الطريفي، وزير الثقافة والإعلام السعودي ورئيس المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب، تحتاج إلى «خريطة طريق لإعلام عربي يسهم في مساندة القضايا العربية».
- جدة