محمد بن عيسى الكنعان
في أي حوار نخبوي حول موقف الليبرالية من الدين والإسلام تحديداً، سواءً كان هذا الحوار جدلاً فكرياً، أو نقاشاً ثقافياً، أو طرحاً إعلامياً؛ نجد أن المحاورين الليبراليين يركزون على طبيعة الليبرالية؛
لكونها نظرية في الحريتين السياسية والاقتصادية، ومن ثم يستنتجون عدم تعارضها مع الإسلام، لكونه في الأساس ديناً سماوياً له قدسيته، وشعائره التعبدية، بينما الليبرالية منتج فكري بشري يحاول صياغة أسلوب أمثل للحياة. بل إن الليبراليين دائماً ما يؤكدون أن الإسلام والليبرالية - رغم اختلاف طبيعتهما - يتفقان على الدعوة للقيم الإنسانية، من حرية، وعدالة، ومساواة وغيرها، وإن اختلفت، أو تباينت تطبيقات هذه القيم في ممارسات الحياة العامة.
ما سبق يبدو صحيحاً إلى حدٍ ما، خاصةً أن الحرية التي تعتبر الأساس الفلسفي لليبرالية الغربية، هي (قيمة إنسانية) وجدت في كل الثقافات، وحثت عليها الأديان، وعرفتها كل الحضارات قبل ظهور الليبرالية كمعطى تاريخي في سياق التجربة التاريخية للحضارة الغربية.
غير أن الجانب المهمل، أوالمنسي في حوارات الليبراليين، سواءً على مستوى ساحتنا المحلية، أو على صعيد الساحة الثقافية العربية، هو ما يتعلق بمسألة (التشريع)، التي تُجسّد حقيقة التعارض الجليّ بين الليبرالية والإسلام، وبالتالي بين رؤية الفكر الليبرالي، مقابل رؤية الفكر الإسلامي في صياغة نظم الحياة، وسلوكيات الناس والعلاقات داخل المجتمعات، فضلاً عن مسائل فكرية أخرى تؤكد هذا التعارض، كمسألة (الحالة التاريخية)، لكون الليبرالية نشأت في بيئة محاربة للدين خلال عصور النهضة الأوروبية، أو مسألة (نسبية المعرفة)، بحكم أن الليبرالية لا تعترف بالمطلق، فمعرفة الأشياء والإيمان بها تخضعان للنسبية، وبالتالي تجيز الليبرالية الشك، والنقض، لكل ما هو مقدس، أو معتبر دينياً، أو اجتماعياً، وعدم الممانعة لإخضاعه للدراسة النقدية، وربما الطعن الفكري.
هاتان المسألتان، وهما الحالة التاريخية، والنسبية المعرفية، قد لا تعبران بشكل واضح عن مكمن التعارض بين الليبرالية والإسلام بالقدر الذي يُعبّر عنه (التشريع)، في جوانبه الفلسفية، والنظرية والتطبيقية. خاصةً أن التشريع هو لب الشريعة التي هي المكون الرئيس للإسلام مع العقيدة، كما أن التشريع هو مدار الحرية التي هي الأساس الفعلي لليبرالية. مع ذلك نجد أن التشريع في الإسلام يخالف ما هو موجود في الليبرالية. فـ(مرجعية) التشريع لدى الليبرالية محصورة في العقل البشري الذي يمثله البرلمان بأعضائه المنتخبين، ويُعد السلطة التشريعية في مفهوم الدولة الحديثة حسب الفلسفة لليبرالية للعملية السياسية. أما (معيار) التشريع فيكمن في وجوب تحقيق (المصلحة، والمنفعة) لأي قانون أو تشريع يُصدره البرلمان المشرع؛ لتنظيم حياة الناس، أو سير أعمال ومهام الدولة، على ألا يتعارض مع الدستور.
في المقابل؛ تكمن مرجعية التشريع في الإسلام إلى (الوحي)، المتمثل في نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، يقول الله تعالى: (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، سورة الجاثية، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في حجة الوادع: (يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه). ومن نصوص الوحي يستنبط المجلس التشريعي (مجلس شورى، أو برلمان منتخب)، مواده القانونية، وتشريعاته، وفق معيار التشريع الإسلامي، المتمثل في مراعاة مسألتي (الحلال والحرام). بحيث لا يحل هذا القانون أو التشريع حراماً، ولا يحرّم حلالاً. قد يقول قائل: هناك مسائل حياتية وقضايا تنموية معاصرة لم يرد ذكرها، أو حتى الإشارة لها في القرآن أو السنة؛ كأنظمة المرور، والتقنية، وغيرها، فأقول: إن ذلك يدخل في ما يعرف بـ(المشترك الإنساني).
من هنا نعي أن التشريع في الإسلام مقيّد بضوابط الشريعة، الجلية في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، بحيث لا تسن قوانين ولا تصدر تشريعات لحياة الناس وشؤون الدولة تخالف الشريعة في أحكامها وتعاليمها. بينما الليبرالية وفق فلسفة التشريع لديها تُجيز إصدار القوانين، والتشريعات دون أن تكون ملتزمة، أو خاضعة لأية قيود، أو ضوابط، أو اعتبارات دينية أو ثقافية، مالم تتعارض هذه القوانين أو التشريعات مع بنود ومواد دستور الدولة، وفي النظم الديمقراطية الليبرالية يكون الدستور مدنيا علمانيا. والأمثلة الحياتية كثيرة للدلالة على التباين والتعارض في فلسفة التشريع بين الليبرالي، الذي يركز على تحقيق المصلحة والمنفعة للناس لسبب اقتصادي أو اجتماعي أوحتى إنساني، مستبعداً مسألتي الحلال والحرام، وبين التشريع الإسلامي الذي يجعل الحلال والحرام، هما المعيار العادل والطبيعي لإجازة القوانين والتشريعات، بحيث تكون المنفعة أو المصلحة ضمنية في عدالة الشريعة الإسلامية، لكون مصدرها الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بخلقه.
لهذا لا تجد أية إشكالات فكرية أو جدلا اجتماعيا بالنسبة للبرلمانات الغربية عند إصدار قوانين أو تشريعات، لأنها عادةً ما تكون متسقة مع مرجعية الدولة، ودستورها، وثقافة المجتمع الغربي. لأن هذا المجتمع حسم علاقته السياسية والاجتماعية مع الدين تماماً باعتباره مجرد عبادة محصورة في الكنيسة. بينما بالنسبة للبرلمانات أو المجالس التشريعية العربية فإنها تدخل في جدل يمتد إلى شرائح المجتمع ومؤسسات الدولة وإعلامها، لأن تلك القوانين أو التشريعات الصادرة تدخل في دوامة العلاقة غير المنضبطة بين التشريع الليبرالي من جهة، والثقافية الدينية للمجتمع العربي المسلم من جهةٍ أخرى، لكون هذا المجتمع لم يتعلمن بشكل نهائي وحاسم، وبالتالي لازال يعتبر الإسلام دينا ومنهاج حياة.