سعد عبد الله الغريبي
125 صفحة
من القطع المتوسط
آثرها في شعره شمساً آيلة للرحيل.. لا ضير في هذا.. فكل شموس الكون في سمائها.. وكل كائنات الأرض تأذن برحيلها دون استئذان.. ذلك قدرها.. منها من يرحل دون عودة كشمس العمر.. ومنها من يختفي عن الأنظار وما يلبث أن يعود كأجرام ونجوم السماء.
والسؤال أي شمس يعني شاعرنا؟!
بداية مع رسالته إلى زهير ابن أبي سلمى.. من وحي معلقته أن يقول:
ألا أنعم صباحا يا أبا كعب واسلم
ودم طيب الذكرى وغير مُذمَّم
فقد كنت أستاذاً لشعر وحكمة
وكنت لنا في الحرب خير معلم
قصيدتك الغراء أضحت شعارنا
نرددها في كل حفل وموسم
يريد شاعرنا التذكير بقرون مضت كان للشعر فيها جذوة وقدوة، وقوة تأخذ معها إلى السباق في مواجهة الغزاة والطامعين.. واختلت الموازين.
قرون تتالت يا زهير ولم نفق
إلى الآن من آثار عطر لمنشم
فقد بعثوا الحرب الضروس ذميمة
وسالت أراضينا كنهر من الدم
مقاييسنا في ذا الزمان تغيرت
فما عاد فعل عندنا بمحرم
أقول لشاعرنا (الغريني) إنها الغربة في الإنسان.. رغم أن الزمان والمكان ثابتان دون تغيير، ألم يقل شاعر قبلك:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
مقطوعته العذبة.. لتلك الغيمة العابرة أشبه بلوحة قزحية ذات حوار شاعري ممتع..
عبرتْ من فوق رأسي غيمة
لونها أبيض صافٍ كحمامة
كانت تشق السماء مسرعة تلاحق الغيمات في رحلتها دون مطر.. خاطبها في لهفة الظامئ إلى أين؟
الشمس تصهر رأسي.. اطفئ لهيبه بقطرات من مائك.. ويبدو أن غيمته العابرة أدركت شكواه والابتسامة تملأ ثغرها: وهمست في مسامعه:
ليس لي ظل.. وما بي قطرة
ليس مني لك نفع أو سلامه
إنني مفردة لا حول لي
وسأمضي ليس في وسعي الإقامة
غابت الغيمة.. وجاءت الغيمة وعلى ثغرها ابتسامة الفرح بربيع يبل أواره وعطشه.
هامسة: «أوفيت الوعد؟!» أجاب: أي والله يا ذات الشهامة.
في مقطوعته القصيرة «الأعمى» دلالة لا تخلو من فلسفة.. وتأمل له دلالاته.
أعمى يشق طريقه.. في الغاب في جوف الظلام
بيمينه عكازة! وبكفه اليسرى بدا مصباحه
وبعد أن انتصر النور على جحافل الظلام جاء التساؤل:
لِمَ تحمل المصباح يا هذا الضرير؟!
وجاء الجواب المليء حكمة:
حتى يشاهدني البصير..
أي كي لا يصطدم بي! كان معه حق.. أتجاوز بعض مقطوعاته.. وأتوقف ملياً مع واحدة من أجمل قصائد ديوانه.. مع «نشرة الأخبار» أي نشرة الأخطار.. البداية:
قال لي: ما عدتَ مفتوناً كما كنتَ بأنفاس الصباح
لا شيء يحفل.. أو يحتفل به.. الورد لا يَعنيه.. والطير لا يُغَنِّيه.. واللحن الجميل لا يُغنيه.
لم تَعُد تسمع تلفازاً.. ولا حتى إذاعة
لم تَعُد تحفل بالأخبار صدقاً أو إشاعة
لم تَعُد تهتم بالشعر ولا الفن.. ولا..
ما الذي يجري بساحات الثقافة.
وجاء الجواب حاسماً وقاطعاً.. مفاده لا شيء يسر الناظرين.. ولا السامعين يا عزيزي دعني لشأني بعيداً عن نشرات الموت والقتل والتشريد والعويل.. الدمار.. وأردف قائلاً:
اسمتعت الآن للنشرة من إحدى محطات الفضاء
قرأتها فاتنة حسناء تغطي المساحيق وجهها:
أول الأنباء أن الحاكم الأعلى (نبتون)
زار هذا اليوم سلطان (عطارد)
دوى حفل كبير للقاء.. ثم عاد الضيف جواً لدياره
واردفت قائلة:
جاءنا الآن بشكل عاجل هذا الخبر
ضربت دولة (نبتون بالصواريخ أراض لعطارد
مات من أبنائها ألف مواطن ومُعاهد
ما مضى يوم على تلك الزيارة
ما مضى يوم على ذاك التعاقد
على النسق من الإبحار في بحر الخيال الشعري يأخذنا معه إلى حرب فضائية أخرى بين زحل والمشتري وحوادث جبال الهملايا.. حيث ينتهي به أو بها إلى نهاية المطاف حيث الصراع.. والصرعة التي تهتز لها أبداننا لمجرد سماعها ناهيك عن الاقتراب منها.. وأغرب من الاقتراب أن نكون من المشاركين في صنعها..
«بعد الغياب» مقطوعة وجدانية تبث أشواقها.. وتمد في عتب لذيذ شوكها..
بعد الغيام أتت تستطلع الخبرا
وتطمئن على قلبي الذي انفطرا
تقول لي في دلال بعدما سكنت؟
هل أثر البعد فيك؟ لا أرى اثرا
فقلت لا تنظري حالي ولا بدني
بل أبحثي عن ربيع بات منحسراً
واستخبري الشعر هل ما زال متقداً
أما يزال لهيب الشعر مستعراً؟
ينبيك أن قد خبت مذ غبتِ جذوته
فلا رماد ولا حجراً ولا شرراً
أبيات ورد غطاها تختصر قصة حب بين عاشقين باعدت بينهما الأيام أو المسافات.. هي البادئة في سؤالها.. لم يجد في النهاية من جواب أكثر من هذا البيت الختام:
عودي فتاتي يَعُدْ الشعر رونقه
ويَستعِدْ نبضه قلبي الذي انفطرا
«حتى وإن» عنوان لما بعده:
حتى وإن أغلقتَ باب حديقتك
وحبستَ كل طيورها في جنتك
لن تمنح الأطيار من تغريدها
ولسوف نسمعها بدون إرادتك
والسؤال الافتراضي يا شاعرنا ترى من يقدر على إغلاق باب الحديقة ذات الفضاء المفتوح؟!
وما الحكمة في إغلاقه..؟ ومن قال إن الطيور كما الإنسان تضيق بالأسوار المغلقة وتشكو بدلاً من أن تشدو.. ليس المهم سماع التغريد.. وإنما الغوص في فهم نبراته سعيدة أم حزينة. وهذا الصباح.. تغريدة شعرية شاعرية بطلها شمس الصحوة..
هذا صبح لا يشبهه صبح آخر
لا يشبه يوماً من أيام العام
لم أطفىء بَعدُ مصابيح الفرقة
لم افتح بعد ستائر نافذتي
ما زال يلف الكون ظلام
طرقت شباكي الشمس وقالت لي بحنان
قم وانهض.. حتام تنام..
بين السبات واليقظة معادلة عادلة الأخذ بها ضرورة لحياة الكائن الحي.. السمر الموغل في سهره يزعج الصباح لأنه يقتطع جانباً مهماً من جغرافيته يؤثر على مخزونه التكاملي لبناء الفكر والحركة لدى الجسد.. وكما أن لليل أيضاً ضرورته باعتباره الغذاء للعقل.. ولراحة الجسد معاً.. حسناً يا شاعرنا إن طرقت الشمس شباك غرفتك قائلة لك: قم وانهض.. النور يكره الظلام..
أخيراً.. مع شق البرقع:
نظرت إليَّ بلحظها
من خلف شق البرقع
فكأنما قد سددت
سهماً توسط أضلعي
ما عدت أبصر بعدها
ما عدت اسمع أو أعي
لكنها جبرت فؤادي
بعد طول تصدع
جبر الخواطر على الله كما يقول فريد الأطرش..
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338