عبدالحفيظ الشمري
ربما من غير الصائب أن نجزم بأنّ هناك صراعاً ما يقع بين الأجيال، أو صراع طبقات عمرية، أو فئات سنية، أو ما إلى ذلك من رؤى يُراد لها أن تتصارع، وهي في الأساس غير قابلة للمواجهة أو الخصام، لأنّ مفهوم الأجيال هو حالات إنسانية واجتماعية وأسرية تُتِمُّ بعضها، ومُوَيْجَاتُ وعي تدفع بعضها بعضاً نحو بلورة تجربة إنسانية متكاملة، فلا يمكن أن تكون هذه الأجيال أو الفعاليات الاجتماعية في مواجهة بعضها البعض، إنما هي تراتب وتدرج ومناولة للتجارب من جيل إلى جيل آخر.
فتنامي الأجيال هو مفهوم اجتماعي إنساني يتشكل على هيئة محطات ومراحل متتابعة، تتراسل وتتنوع، وقد تختلف من جيل إلى آخر، لكنها بالضرورة لا تتصادم أو تتصارع، إنما تظل تساوقاً منطقياً لتكوين الوجود الإنساني، وتتبعاً واضحاً لمسيرة الأسلاف، وما ستكون عليه الأجيال الواعدة من خبرات وتجارب.
فالذين يبشرون بأنّ هناك «صراع أجيال» نعتقد أنهم يستندون على ما تبثه وتروّج له بعض الكتابات الدرامية، والأعمال التمثيلية، وبعض المشاهدات السطحية عبر وسائل الإعلام، حيث تسعى بوعي أو بدونه أن توجد نوعاً من الصدام.. مع افتعال حوار عاصف حول ما لا يمكن أن يؤخذ به، لا سيما فرضيات الجدل بين أفراد الأسرة، والمجتمع، كباراً وصغاراً من خلال التباعد والتباين بين القديم والحديث، والمتعلم والجاهل، والغني والفقير، أو ما هو أصيل أو دون ذلك، وما إلى تلك المقاربات غير السوية.
فهذه المقاربات بالفعل غير واقعية، لأنّ الأسرة وحدة واحدة، تتراسل فيها الحياة والتجارب، فكل ما تقدم العمر بجيل تبعه جيل آخر؛ يستلم منه المهمة .. فلا صدام هنا أو «صراع أجيال» كما يزعم البعض، إنما هو جدل ممكن حول مفاهيم الناس للحياة وتجاربها.
ولنأخذ مثالاً ما حول الأسرة .. فأبناءُ رجل في الأربعين قد لا يرون فيما يتذوقه ويمارسه من هوايات، وما يحبه من طرف وأحاديث أي جديد، بل قد يعتبرونه قديماً، وما يتعاطاه مستهلكاً، على نحو ما يستمع إليه من قصص وأشعار وأغانٍ، إلا أنّ هؤلاء الأبناء وبعد أن يبلغوا العشرين وما فوق سرعان ما يصبحون معه في مستوى الذائقة، بل ربما يشاركونه الهواية، وينصتون معه إلى تنويعات التراث شعراً وحكاية وغناء، أي أن التقدم بالعمر كفيل بأن ينقل التجربة، ويساوي فيها بين الأجيال، وهذا ما يؤكد أن لا صراع بينهم، إنما هو اختلاف في قياس التذوق وأحكام السن.
فالأمر الذي يجب التأكيد عليه أن افتعال هذه الصراعات بين الأجيال قد يُحْدِثُ نوعاً من تفكك المنهج، لكننا حينما ننظر بتمعن لمسيرة الأجيال، نجدها وقد اكتنزت بالكثير من التجارب التي يستنسخها جيل اليوم، ليمد ذاته بها، ويتشبع منها، ومن ثم يحيلها إلى الجيل الذي يليه، وهذه سنّة الله في خلقه.
فرؤية «صراع الأجيال» ما هي إلا وهم من أوهام الحاضر، بل إننا لم نر هذا الصراع أو نسمع عنه إلا في بعض هذه المعالجات الدرامية والمسلسلات والتمثيليات .. فيبدو أنه لمجرد الاستهلاك، والتنظير العام على قضايا المجتمع، فرحم الله العلماء والباحثين والدارسين الذين ظلوا يؤكدون على أنّ هذا الصراع أمر مفتعل، ولا أصل له في حياتنا، وتجارب أجيالنا.