(أ)
قيمة الإنسان في أعماله، وعلى هذا الاستناد: الإنسانُ على ضرورة مع الحريّة والمسؤوليّة كيفما تمّ تضييق الدائرة عليهما فإنّهما يخرجان بقوّة الضرورة، فغيابُ الحريّة ضربٌ لمسؤولية الفرد وما يترتّب عليها، ومن هنا نفهم لماذا تسقط مسؤولية الالتزام بالقوانين/وتكليف الشريعة عن المجنون-فاقد الوعي، أو ما يسمّى قانونيّا: «الفاقد للأهلية المعتبرة شرعاً وقانوناً» لأنّ فقدان الأهلية هو فقدان للحريّة الموجبة للالتزام بالمسؤوليّة، وبالتالي، فإنّ حضورَ الحريّة تأكيدٌ على قابليّة الالتزام بالمسؤوليّة وما ينتج عنها في ظلّ إزالة ما يعيقها، وحضورها مرهونة (بتحرّر) الإنسان من أوهامهم الجاهليّة وعلى رأسها العنصريّة. ولأنّ الكمالَ محالٌ على الإنسانِ، وهذه الاستحالة عينها عاملٌ في قانون التطوّر والارتقاء، ذلك أنّ الإنسانَ كائنٌ لا-نهائيٌّ وأنّه لا يصل، وهذا اللا-وصول دافعةٌ جينيّةٌ للاستمرار التطوّر، وعدم الاستكانة لمرحلة يصل إليها على مستوى تطويع الحياة لصالح سعادته، بكلّ ما يحتاجه هذا التطويع من أعمال ومعارف وخبرات وعلوم وتجارب وتكنولوجيا.
الانتصارُ للفرديّة عبر التشريع هزيمةٌ لمبرّرات العنصريّة، ومضادٌ لفيروسات انتشارها في خطاباتٍ تظنّ في نفسها النأي بعيداً عن العنصريّة، فكلّ خطابٍ يعلو من قيمة جماعة على أخرى تحت تبريرات غير ماديّة-واقعيّة فإنّما يحمل هذه الفيروسات العنصريّة التي تجعل التفوّق قائماً على الانتماء لجماعة وليس على الفرد وإنتاجه والتزامه وتقواه في أعماله؛ لأنّ (أوهام) القيمة في العنصريّة لا ترجع إلى ما تفعله الفرديّة من أعمال وتطويعات حياتيّه لصالح سعادة الإنسان، بل تعتمد (نسب الفرد إلى عرق أو ديانة أو طبقة أو جنس أو جماعة) وهو بهذا الانتساب يصلّ حدّ الكفاية والنهاية ويمتاز عن باقي (الإنسان)، فيكون تميّيزه ليس من إنتاجه بل من انتمائه: (ففي تصوّر العنصريّة: أن أسوأ شخص ضمن جماعتها أفضل من عالمٍ في جماعة أخرى وإن نفع بعلمه وعمله باقي الجماعات جميعة). وكما أنّ العنصريّة تلغي قيمة الفرد وتضرب في معنى الحريّة المسؤوليّة، فإنّها في المقابل من الجهل بحيث إنّها ترزح تحت مفاهيم ثبوتيّة لا تستند إلى علمٍ، وتقف ضدّ نواميس العمل والتطوّر.
الإنسانُ بأعماله، وليس هناك ذريّة تحمل في سلالتها جينات تجعلها ضامنة للإنتاج والتفوّق والتمييز في كلّ أفرادها، كما جاء في المتن القرآني: «قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين»، فلا توجد سلالة في العالم مهما كان أجدادها على درجة من الإنتاج والعلم والقيمة النفعيّة تنقل في ذرّيتها ما يحمله أحد الأجداد من تفوّق أو تمييز على البقاء والاستمرار.
قد ترى دعوات العنصريّة في أمم أخرى -عند شذّاذ كتّابها وبعض الساسة العنصريّين- وهي دائماً خاوية من أيّ استنادٍ معرفيّ أو علميّ أو بيولوجيّ/إحيائيّ وتبقى دعوات منبوذة تستغلّ ثغرات في القوانين سرعان ما يتصدّ لها البرلمانيّون والإعلاميّون، ومنها قضايا عديدة تمّت محاكمتها وإدانتها؛ ففي كلّ أمّة طائفة متفرّقة منهم تأخذهم أوهامهم للعنصريّة. فكيف -هنا والآن- نقرأ خطاباً ينطلق صاحبه من مرجعية دينيّة ثم تجده يمجّد العرب على الفرس!! هل يستوي مع المرجع؟ هل يستقيم مع وقائع خطاب الرعيل الأوّل بمعية أركانه الواقعية الماديّة: (القرشية والأوسيّة والخزرجيّة والحبشية والفارسية وغيرهم..) وما قدّمه من مفهوم يقترب من مفهوم مواطنة التقوى واللغة، وفقاً للمعطيات والإمكانات السياسية آنذاك، ولم يقتصر على الإيمان لطالما ضمّت الكيان السياسي الأول أتباع الديانات الأخرى؛
(ب)
رجعنا في موضوع: (المواطنة اللغويّة) المنشور في المجلة الثقافيّة السبت الماضي (16/5)، إلى استنادات عديدة في دلالة مرجعيّة (مسمّى عرب) إلى أصل في اللغة ومسمّى اللسان قبل تطوّر اللفظة على المجاز كمسمّى لتجمّع أقوام غلبهم: (العرب بمعنى الإبانة والإفصاح والإظهار، والبداوة/البادية بمعنى الإبداء أيضاً، وهي دلالة مكمّلة وموكّدة لما ذهبنا إليه). أمّا (التقوى) فهي في اتّقاء عواقب الأعمال، وحمل مسؤولية المواطنة وضروراتها في مفاهيم المساواة والتميّيز بالعمل والمنفعة، فمحلّ (التقوى) يكون في العالم الماديّ أيضاً وأعماله وعلاقات أفراده، حينما يتّقي المرء عواقب أعماله وخواتيمها، ويلتزم بالقوانين أو يدفع الضرائب وما في حكمها، إقراراً بالانتماء والمنفعة المتبادلة الوقايّة (من شروط الانتماء)، وكلّ عملٍ فردي يُخشى من عواقبه على بقيّة الأفراد أو بعضهم أو (واحداً منهم) يكون مجرّماً أو أنّ هناك ثغرات في القوانين أو تنفيذها (وهو فسادٌ)، وهذا أصل في التقوى والالتزام بالقوانين والتشريعات، وقبلها الأعراف.
كارثة خطاب العنصريّة والطائفيّة أو أيّ خطا ب تمييز أنّ جنايته لا تقتصر على أعدائه كما يظنّ أتباعه، بل هي قائمة في تكوينه ضدّ أفراده إذ يمحو ويطمس قيمة الفرد، بتجريده من قيم العمل، الإنتاج، والتقوى، التي هي عين الالتزام بالقوانين، على دلالة: أنّ التقوى هي اتقاءُ عاقبة الأعمال، ويتجاوزها ويقفز فوق الأسباب الماديّة الموجبة للتمييز بين منتج ومستهلك، بين عامل وعاطل، بين من يلتزم بالقانون ومن يكسره، بين من يبحث لخدمة الإنسان وبين من يدمر هذه البحوث.
(ج)
إنّ الإساءة إلى الشعب الإيرانيين من باب العرق وتمجيد العرب، هو –تحديداً- سابقةٌ ورخصةٌ للاعتداء على أيّ شعبٍ ندخل في صراع مع نظامه السياسي، تحت تصوّرات كاذبة ومُضلَّلة ومُضلِّلة ترى الخير والاصطفاءَ بانتماءٍ عرقيّ أو دينيّ، ولا تراه في العمل النافع، بحيث إنّ العنصريّ يمحو نفسه في الوقت الذي يظنّ أنّه يمجّدها. إنّ الصراع مع إيران التوسّعيّة محلّه أطماع نظام الملالي وتدخّلاتهم في دول المنطقة، وليس محلّه الشعب الإيراني أو شعوب المنطقة، ويجب الحذر دائماً من الإساءة لشعبٍ جارٍ أو غير ذلك، ونحن في خضم صراعٍ مع نظامه السياسيّ، فثمّة فرق خطير جدّاً: بين صراعٍ مع نظامٍ وبين صراع مع شعبٍ، فكيف إذا كان هذا الشعبُ جاراً، ويرزح تحت نظام استبداديّ يستغلّ الدين من أجله أطماع رجالاته الداخليّة ضدّ شعبه، وأطماعهم الخارجيّة ضدّ أنظمة وشعوب المنطقة!
يطغى على خطاب انتقاد إيران خلوّه من النقد السياسي الواقعي، واعتماده على إنشاءٍ وسردٍ عاطفيّ مكرورٍ وسطحيّ، وبعضه جاهلي لا قيمة له غير تحريض متهوّر لا تحمد عواقبه، وهو بذلك لا يختلف عن غوغائيات منتقدي السعودية، إنشاء بإنشاء، وأخطاء بأخطاء؛ ونحن حينما نفكّك الخطاب العنصريّ فليس رفضاً لمواجهة النظام السياسي الإيراني وتوسّعاته إنّما إدارته إعلاميّاً على أصل في العلاقات الدوليّة قائم على حسن الجوار والعلاقات الإنسانيّة، وعلى أن تبقى النزاعات استثناء، وهو أصل في الواقعيّة السياسيّة تعتمد تشخيص الواقع وتفكيك النزاعات على علّة في تعارضها، وبناءً على المصالح والمنفعة المتبادلة بعيداً عن سراب التاريخ، فليست العنصريّة بأداة قادرة على إنهاء الصراع بما يكفل نزعه من علّته، وهذا استنادنا في المطالبة بإزاحة بقايا الجاهلية المعاصرة، واستئصالها كواجب وطني على الإعلام والتعليم عبر ضوابط وتشريعات كفيلة بردع هكذا دعوات، وحيلولتها أن تغدو خطاباً مؤثّراً أو ورقة ضغط في طاولة التفاوض، لأنّها ورقة ضغط ضدّنا وليست لمصالحنا الوطنيّة، وهو ما عبّرنا عن بعضه في موضوع سابق: (ميثاق المواطَنة السعودية).
(د)
يضعنا كتّابُ العنصريّة في موقع الوارث لعداءٍ تاريخيٍّ بين الدولة العثمانيّة وبين الدولة الصفويّة في إيران بين (1501-1736م)، ونحن في ذلك الصراع التاريخي لم نكن طرفاً، فكيف نحمل خطاباً عثمانيّاً في صراعنا السياسي مع إيران اليوم، والعثمانيّة كانت من أعداء الدولة السعوديّة! فما نفعُ استحضار التاريخ إذاً! فالتاريخُ كيفما يُسردُ يبقى نسبيّاً وجانباً من الواقع التاريخي من منظور الناطق به، لكنّه ليس كلّ الواقع التاريخي، وحتماً هو ليس الواقع-اليوم، والاستنادُ إليه مفسدةٌ تزيد الإشكالات ولا تقدّم أيّ حلولٍ واقعيّة.
ولك على عشوائيّة الخطاب الإعلامي جهالة التعامل (أو دراية-وتلك أخطر) مع مفرادتٍ: (كالمجوسية-الزرادشتيّة، وفارس، والصفويّة) وهي مفردات ذات دلالات واسعة وعريضة ويتمّ زجّها في سطرٍ على دلالة (التحقير) في خلط فاضح لسياقاتها وحمولاتها المختلفة، ودون تفريق بين حقبات تاريخيّة وانتماءات مذهبيّة متعددة، ويُراد لهذا السطر أو السياق العنصري الإنشائي أن يكون ختماً على العنصريّة الجديدة. (ما المجوس؟ ديانة قديمة قبل الإسلام كان سكّان فارس وبعضاً من سكّان الهند يعتنقونها. من فارس؟ اسم علم لبلاد ذات حضارة عريقة، تعدّدت فيها أعراق وديانات. وماذا عن الصفوي؟ نسبة إلى الدولة الصفويّة والتي كانت في عداءٍ شديد مع العثمانيين) فانظرْ كيف يُراد لهذه الدلالات المختلفة جدّاً أن تكون دلالة للشعب الإيراني اليوم، دون فصلٍ بينه وبين نظامه الإكليروسيّ-الديني!
- موهوم من يُحضر التاريخ حكماً في الحاضر، أو ورقةً في طاولات التفاوض
- جدة