-2-
قد تكون إشكالية «موت المؤلف» أكثر تعقيدا خلافا للتبسيط الذي طرحه أستاذنا الغذامي في «توريقة الأسبوع الماضي» ولعل المقام والإحالة أوجبا لأستاذنا الإيجاز وتغييب الجانب الأهم لفكرة «موت المؤلف» أو هكذا أعتقد، متجاوزة عبارة شيخنا الغذامي «بردة فعل غير إيجابية» ففي الفكر والتنظير ليس هنا ما يسمى ردة فعل إيجابية أو غير إيجابية مادامت ردة الفعل تستند على «شفوع موضوعية وعقلانية» لا تتعارض مع مسار المنطق في عمومه وإن كان ذات المنطق مرفوض من الآخر.
هذا ما تعلمناه من «أستاذ الجيل الغذامي»، ولذلك أجدني أتحفظ على تلك العبارة»ردة فعل غير إيجابية» لأنها تتعارض مع التاريخ النضالي لأستاذنا الغذامي.
كما أن توصيف ردة الفعل لغير المتوافق مع ما نعتقد «بغير إيجابية» فيه تلميح «لتطرف فكري» ابعاديّ وهو مالا يقصده بلاشك الغذامي، ففي الاختلافات الفكرية الرأي والرأي الآخر وهما دوما خارج ثنائية الإيجابية وغير الإيجابية.
في البدء «أنا أتفق مع الغذامي» دون شرطي الإلزام والمطلق في «أن القيمة أولى للقول من القائل»، « وتلك الأولوية التي يفسرها الغذامي لمصلحة القول مقابل «إخفاء القائل».
كما أن تلك «الأولوية مقاوِمة لفكرة التوثين والتصنيم»، وحامية من «الانزلاقات الطائفية والمذهبية» التي تتعلّق غالبا بهوية «القائل» لا» بهوية القول» و»مُلغيّة لحدود الشراكات الحضارية».
لكن هل تلك الأولوية «لازم مطلق»؟.
إن « اللزوميّة المطلقة» هي غالبا «مصدر مشكلاتنا الثقافية «؛ لأنها تًوجب الأحادية الفكرية ، وهو وجوب مُلغيّ للتعددية الثقافية، كما أن في تلك الوجوبية القائمة على اللزومية والمطلق فيها وصاية على الفكر.
وهي أيضا «اللزومية المطلقة « مخالفة للطبيعة الإنسانية ذاتها، الطبيعة المجبولة على الاختلاف والتعددية.
لأن الاحتكام إلى طبيعة الأشياء يظل ضرورة لا يمكن أن نتجاوزها أو أن نتجاهلها ، فليس هناك «مطلق» وما يتجاوز إلى المطلق هو «عبث»، ومن هنا نشأت «سًنة الاختلاف».
إذ لا مطلق تتحرك من خلاله الأشياء، ومرفقاتها ؛ الفكر والثقافة والاعتقاد.
كما أن الاتفاق ليس معادلا للإطلاق وليس ممثلا له؛ فالاتفاق يُبنى على مقام شرطي متى ما نٌقض ذلك الشرط سقط مبنى الاتفاق، في حين إن الإطلاق مسلّمة لا تستند لبناء أو شرط، ؛ ولذلك يتضمن المطلق غالبا درجة من درجات التطرف.
كما أن الاتفاق مرتبط بحالة خاصة وذلك الارتباط محاط «بتزمين» بمعنى أن صلاحيته مؤقتة باقتضاء وضرورة ، في حين أن الإطلاق غير قابل للتزمين والاقتضاء وخروجه من شرط الضرورة تٌلزّم «مسلّمته».
فهل الاعتقاد «بموت المؤلف» مسلّمة أم اتفاق مشروط بغاية؟ طرح لنا الغذامي في توريقته أربعة شواهد في هذا المقام ، فقهي وخُلقي واجتماعي وأدبي.
وتنوع الشواهد له دلالته لٍمن قرأ تلك التوريقة وتلك الدلالة هي «أن موت المؤلف «عند الغذامي مسألة لا تخص النص الأدبي إنما تشمل أيضا «عموم القول» من شهادة وحكمة ومثل وفتوى ورأي وحكم.
وهذا التوسع في مسألة موت المؤلف أظنه هو الذي جلب»ردة فعل غير إيجابية» على وصف استاذنا الغذامي، وهو توسع أظنه يضرّ النظرية أكثر مما ينفعها؛ لأنه يٌلغي رُتب الأقوال وأنواعها وصفاتها، وفي ذلك الإلغاء للرتبة والنوع والصفة صف لعموم القول على قدم المساواة، وهو اصطفاف ينزع من عموم القول «الوهم بقدسيته» لأن مساءلة القول ومحاكمته فيه إسقاط لقدسيته وذلك غاية نظرية موت المؤلف التحرر من المقولات المقدسة ، كما ينزع «الوهم «بعصمة القائل»؛ وذلك أيضا غاية نظرية موت المؤلف «لا أحد فوق قانون النقد».
إن «صدق القول وحقيقته» ليسا مرتبطين بقيمة القول في ذاته وإن توفر جزء من القيمة ، إنما مرتبطان «بنزاهة القائل» تلك النزاهة التي تؤسس للقول صدقيته وحقيقته.
وبذلك « فالقول فيما ضربه لنا أستاذنا من شاهد « ليس مقدما على القائل في صدقيته، وإن قُدِم ذلك القول في شيوعه وزيادة تأثيره، وباعتبار أن شهرة الإعلام للظاهر المتداول، والقول أكثر قدرة على الانتقال والتداول من هوية صاحبه، والترجيح هنا لتداولية القول دون القائل يعود لخصائص شيوع القول.
و الشيوع مرتبط بالضرورة «بصفة القائل» يمكن أن نحدد ثلاث مراحل «لإعلامية القول « مرحلة التصديق ، ومرحلة التداول ومرحلة الشيوع، ومرحلة التصديق مرتبطا دوما بنزاهة القائل وواقعيته وقدرته على التنبؤ والاستشراف ، تلك النزاهة والواقعية والقدرة هي التي تضمن لمقولته التداولية والشيوع.
إن إيماننا «بقول ما» أو الاعتقاد بصدقيته برتبط غالبا «بصفة قائله وهويته»، ولذا تُصبح مسألة «التحرر من سلطة القائل» من ق بيل السهل الممتنع.
كما أن هناك حالات تتدخل «صفة القائل» في وجوب شيوع القول صحة وحقا، وحالات تتدخل «صفة القائل» لإفساد «القول» ولوكان صحيحا وحقا.
فنحن لا نستطيع «نقد أقوال واراء « لمحمد بن عبدالوهاب أو ابن حنبل أو ابن تيمة، لوجوب شيوعها بالصحة والحق وإن لم تكن كذلك في أصل ذاتها ، إنما شيوعها المكتسب بالصحة يعود إلى سيطرة سلطة صفة القائل على الذهنية التداولية.
ولذلك قلت في المبتدأ ما يُحمّد لأولوية صفة القول على صفة القائل هو «مقاومة الوثنية البشرية» ومكافحة التوثين.
كما أن هناك «أقوال محرمة الشيوع» مع صحتها أو خللها لارتباطها «بصفة القائل».
وبذلك فصدقية القول وشيوعه وتأثيره مرتبطة بنزاهة القائل» ، ومتى ما شُكك في نزاهة القائل وصلاحيته «أُبطل قوله» ولو كان حقا وصدقا؛ لأن الارتياب دليل إسقاط.
وكما أن «صدق القول وحقيقته» مرتبطان «بنزاهة القائل» «ففجور القول وبطلانه» مرتبطان «بفساد قائله» ولو كان حقا، فصفة القائل الظاهرة أو فيما يعتقد ظهورها مؤثرة في «صفة القول».
كما أن القانون المنظم «للسياق القولي» يعتمد على ثلاثة عناصر هي؛ صفة القائل ، طريقة القول، درجة فهم المتلقي للقول، وتلك الدرجة المتحكمة في دائرة الفهم غالبا ما ترتبط بصفة القائل وطريقته في عرض القول.
ولذلك تختلف العقوبة القانونية لذات الفعل على صاحب الفعل انطلاقا من تعمده»السبق والإصرار» أو عدم تعمده لهما، إذ أن العقوبة هنا معقودة بنية الفاعل وإدراكه المتحكمان في إصدار قوله.
قد تبدو نظرية موت المؤلف في عموم « القول» أكثر جدلا من النص الأدبي؛ نظرا إلى طبيعة الذهنية العربية والإسلامية التي تؤمن «بالمقدّس البشري» وتحتفظ ذاكرتها «بمقولات وأراء وأفكار» بمثابة نصوص قدسية محميّة من النقد والنقض والمراجعة ، ومعصومة من الخطأ والزلل، وتلك القدسية لا تعود لذات الأفكار إنما تعود إلى «قدسية القائل وتوثينه».
- جدة