د. خالد محمد باطرفي
حدّية الإسلامية والليبرالية تمزق المجتمع:
مشاري الذايدي كان ناشطاً إسلامياً في بريدة، القصيم. اعتقل مع عدد من زملائه بتهم من بينها إحراق محلات بيع أشرطة الفيديو. في السجن أتيحت له فرصة ذهبية لإعادة النظر في قناعاته كافة، بعد قرءاة واسعة ومنفتحة في الدين والسياسة.
«في الأيام والليالي الوحيدة والطويلة قرأت لتنويريين واطلعت على آراء فقهية لم أكن أعلم بوجودها، وبعض التي كنت أسمع عنها لم أجرؤ على قراءاتها لأن شيوخي حكموا عليها وعلى أصحابها مسبقاً بالكفر أو الفسوق أو الخروج عن جادة الطريق. كل ما قدموه لي كانت رؤية ضيقة محدودة حدّية للفكر الإسلامي»، يروي مشاري، الذي تعرفت عليه زميلاً في جريدة المدينة.
«أذكر وكأنما البارحة عندما كنت أحبس نفسي في غرفتي وأغرق بين كتبي، حتى أقاوم إغراء مشاهدة مباريات كرة القدم، التي حرمت علينا، كما حرمت جل وسائل الترفيه. وأتحسر اليوم على النهائيات التي فاتت عليَّ في بطولات الدوري السعودي وكأس العالم»، يعلق ضاحكاً.
مشاري اليوم يحارب التطرف محذراً من خطورة الفكر «الصحوي» والديني المتطرف على عقل المجتمع، ويطالب بمراجعته وتصحيحه. ويتفق معه عدد من رفاقه مثل منصور النقيدان، الذي تعرفت على تجربته خلال عملنا معاً في جريدة الوطن عام 2000، وعبدالله بن بجاد. وهم وغيرهم كثيرون مروا برحلة وعرة من التطرف الإسلاموي، إلى التطرف في معاداته، وفقدوا وكسبوا العديد من الأصدقاء والأعداء خلال هذه الرحلة.
المعسكر الآخر لا يجلس ساكناً أمام هجمة «الليبراليين الجدد». واتهم أحد نجومهم الإعلام الذي يذيع وينشر لهم بالحرب على الإسلام، ودعا إلى مقاطعته. وفيما يتبنى بعض هؤلاء الدعاة عبر برامجهم التلفازية وخطبهم وتغريداتهم الحرب إلى الليبرالية، يدعون في الوقت نفسه إلى الجهاد، بشكل عام، ويخصون بلداناً كسوريا بهذه الدعوة. المشكلة أن مستجيبي الدعوة يتلقونها أيضاً وحصراً من منظمات إرهابية وجماعات متطرفة.
وعدا هؤلاء الدعاة، الذين يتمتعون بمتابعة الملايين لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، هناك المئات، إن لم يكن الآلاف من دعاة الكراهية والطائفية. والملفت هنا أنهم كمن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، فإن كان الجهاد وقتال الآخر واجباً فلِمَ لا يشاركون فيه بأنفسهم وأبنائهم؟
يروي سلمان الجبيله، أن الحماس دفعه في مرحلة الشباب إلى العزم على حرق محل للفديو في الرياض بعد استماعه إلى خطبة داعية شهير. ولكنه في آخر لحظة قرر أن يعطي صاحب المحل إنذاراً قبل أن يفعل. «صدمني صاحب المحل بسؤال أيقظني من سباتي: إذا كان الحرق واجباً فلماذا تخلف عن أدائه صاحب الفتوى؟ كان سؤاله في محله، والجواب أن الشيخ اختار لنفسه وأهله السلامة، وحرضنا نحن على ارتكاب الجريمة».
سلمان اليوم يعد نفسه بكل فخر في المعسكر المضاد. كتب تجربته في مسلسل تلفزيوني وتخصص في نشاطه على اليوتيوب وتويتر في محاربة التطرف والدفاع عن حقوق المرأة.
تمزق مجتمعنا بين النقيضين، فالمتشددون في المعسكرين الديني والليبرالي يملؤون فضاءنا صخباً وحراكاً وجدلاً، وكل فريق يستخدم كل ما في ترسانته لإقناعنا بأن الآخر هو الشيطان. وربما كنتيجة، خرج كثير من شبابنا عن الجادة، وبلغ ببعضهم الانحراف تبني الإلحاد. إحداهن روت لسلمان كيف أنها طرحت أسئلتها الفلسفية على المجموعة الدينية التي كانت تنتمي إليها فطردوها وتبرؤوا منها، ربما خشية على فكرهم، أو لعجزهم عن محاورتها. وفي المقابل لم يستطع التيار الليبرالي المأخوذ بالحراك السياسي استيعابها، فألحدت.
وهناك من اختار المادية مذهباً، والاستهلاكية أسلوب حياة. شعارهم نعيش حياتنا كما يحلو لنا، فهي أقصر من أن نشوش عليها بالعقائد والإيدلوجيات. المال هو طريقنا لتحقيق أهدافنا والاستمتاع بالحياة، ولذا نكسبه بأي وسيلة ممكنة. في معجمنا، الأنا تأتي أولاً، ثم من نحب. وأي شيء آخر نتركه لله والآخرين.
التطرف هو حالة عقلية ونفسية، عندما نهملها تنتج المتطرفين من كل جانب. كل فريق يكرس جهده ووقته لإدانة وشيطنة الآخر، وهكذا فبدلاً من أن يتحقق التعاون البناء، نجني المنافسة المدمرة. وفي هذا الأثناء تنمو تنظيمات تعيش على التطرف وتستقطب المتطرفين كداعش والنصرة والقاعدة والحوثيين وحزب الله وعصائب الحق، وتحصل على دعم قوى إقليمية، كإيران، تستغلهم لإشاعة الفتنة وتحقيق أهدافهم السياسية والمصلحية.
لنستعيد شبابنا، نحن بحاجة إلى دراسة هذه الظاهرة في العمق، وأن يعمل علماؤنا في جميع المجالات ذات الصلة، كعلوم الدين والتربية والاجتماع والنفس والسياسة والجريمة، ومن خلال ندوات ومؤتمرات وبحوث تتبناها مؤسسات فكرية وأكاديمية على تفكيك الخطاب المتطرف، ومعالجة أسبابه، والتصدي لقادته، ومنهجهم الخفي، وإيجاد حلول لهذه الظاهرة. ثم يأتي الدور علينا جميعاً للعمل معاً على الأخذ بهذه التوصيات والعمل على نشر الثقافة الإسلامية الوسطية المعتدلة القائمة على سماحة الإسلام وعمارة الأرض، ومبادئ التعاون واحترام خيارات وإنسانية الآخرين.