د. حسن بن فهد الهويمل
ما أحمد الله عليه - والله محمود على كل حال - أنني أَفرُّ من الانتماء، المُحْدَثِ بفرقته الممفْشِلة، وتعصُّبه المقيت، فراري من الأسد. فكل مُنْتَمٍ، متعصب لانتمائه، مُصادِر لحق غيره من أجل حزبه، أو طائفتِه، أو قبيلته، أو أرضه، هو في نظري [مَجْذُوم] مُعْدِي. لا يجوز الاقتراب منه، ولا التعايش معه، ولا التعذير له.
نعم أنا مسلم على مذهب [أهل السنة، والجماعة]، أختلف مع غيري اختلافاً معتبراً، أو اختلافاً غير معتبر. ولكنني لا أقاتل المُخْتَلِف معي، ولا أكيد له. بل أدعوه إلى سبيل الحق بالحكمة، والموعظة الحسنة. فإن بسط يده ليقتلني دفعته، وتفاديت قتله، ثم بسطت لساني، لأرشده.
فالمتعصب لأي انتماء مُضِرٌ بنفسه، وبمن معه، وبمن حوله. ولو رجعنا الظواهر السيئة، والأحوال المتردية إلى أسبابها، لكانت كل المصائب التي تتجرعها الأمتان العربية والإسلامية من هذا الصنف المتعصب، مِمَّن يُكْرِهون الناس على أن يلحقوا بهم.
والانتماء المتعصب من وسائل المفسدين في الأرض، فهم الذين يذكونه، لأنه الثغرة الأوسع، والثنية الأضعف.
فالأعداء الحقيقيون، لا تكون المواجهة مع الطريدة، من أولويات خياراتهم، لأنهم يعرفون أن ثمن المواجهة باهظ.
وسبيلهم إلى إنهاك الطريدة يقوم على خلط الأوراق، وتضخيم الاختلاف، والتحريش بين الفرقاء المتعايشين.
ومتى تهيأ لهم التحريش، والتغرير، واستدراج المغفلين، فإنهم لن يعدلوا عنه، ولن يعدلوا به ما سواه. إنه نوع من خلط الأوراق، وإغراق الأمة في حمامات الدماء.
ولكي يُجْهِزوا على المتردية، والنطيحة، ويأمنوا على أنفسهم، وعلى كل أشيائهم، فإنهم يدفعون بالمغفلين من الأمتين العربية، والإسلامية، للطائفية، والحزبية، والعنصرية، والإقليمية، المتعصبة، المتشددة، النافية لغيرها، والفارضة بالقوة رؤيتها.
هؤلاء الأعداء الحقيقيون المتقنعون بمختلف الدعاوى، يدخلون كما [الشيخ النجدي]، على المتصالحين، يشيرون على هذا، ويساعدون ذاك، ويخذلون أولئك.
وكلما شارفت طائفة على الغلبة، والانتصار، راغوا عنها، كما يروغ الثعلب. ودعموا خصومها.
وهكذا تتآكل الأمة، ويضعف شأنها، وتتضاعف مشكلاتها، وتتعدد قضاياها، وتختلط أمورها، ويصبح بأسها بين مختلف أطيافها شديد. وهذا الكيد المتآمر من المسلمات، وإن تحفظ عليه من تحفظ.
ألم تكن الفرق، والطوائف في الوطن العربي متصالحة، متعاذرة، متعايشة. فمن أذكى العداوة، والبغضاء بين أطرافها؟
ومن حملها على العدول عن جهاد اللسان، إلى جهاد السنان؟
مع أنه بالإمكان أن تتسع الأرض، والصدور لكل الأطياف.
[الهنود] يعبدون ألف إله، ويتكلمون مئات اللغات، وينتمون إلى عشرات الأجناس، ومع ذلك يتعايشون، ويراعون مصالحهم، لأنهم لا يقبلون بخلط أوراقهم، ولا يسمحون لأحد أن يتدخل فيما بينهم.
ونحن لغتنا واحدة، وإلهنا واحد، ورسولنا واحد، وقرآننا واحد، وأعراقنا متجانسة، وتمايزنا بالتقوى. ولكننا نختلف، وتحترب، ويلعن بعضنا بعضاً. إنها لعبة الإغراق.
فمن حملنا على هذه الحياة الشاذة؟.
إنه السماع للكذب، والإذعان للتخويف.
ومن هو الرابح من هذه الفوضى الهدامة؟.
نحن، أم الصهيونية، والمجوسية.
لسنا جهلة، ولسنا مغفلين. نحن ورثة حضارة، عَلَّمت العالم. وأنارت طريقه. وشواهد سبقنا مطمورة بملايين المخطوطات المنهوبة، وآلاف المطبوعات المنْقَذَةِ. ومع هذا تبدو تصرفاتنا متوحشة، وأخلاقنا سيئة، وبأسنا بيننا شديد.
الذين يُنَحُّون العواطف الجياشة، والأهواء الجامحة، ويعقلون، ويفكرون، ويقرؤون الواقع، بعيون البصائر، لا بالعيون الزائغة، التي لا يبصرون بها، يعرفون أن وراء هذه الفتن متآمرين، على أمتنا الإسلامية، والعربية.
وصدق الله: {فإنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}?.
الأعداء الحقيقيون، يعرفون أن لدينا من الإمكانات الحسية، والمعنوية، ما لو استُغِلَّت على وجهها، لشاطرت العالم قوته، ونفوذه، وحضوره الفاعل. وهو ما لا يريده الأعداء.
لقد أتقن الأعداء خلط الأوراق. والتشكيك بالأنفس، واليقينيات، وأدخلوا الأمة العربية، في نفق الطائفية، والعرقية، والإقليمية، وأوهموهم بعداوات، ليس لها وجود. إنها انتهازيه الغرب المتعجرفة، واحترافية [الميكافيلية] المتوحشة، ومكر المجوسية الجامحة إلى الفتن.
لقد وجد الغرب في [المجوسية الباطنية] المساند، والمساعد، والمؤازر، لتنفيذ اللعب القذرة. وَوَجَدَ الطرفان العاطفة الدينية خير معين، لتمرير مكائدهم، فأنهكت هذه العاطفة بالاستغلال.
أنا هنا لست متأنسناً على شاكلة [أركون]، ولا متصوراً لظاهرة [اللامنتمي]. ولست [ليبرالياً] يبلغ به تصور الحرية حَدَّ القبول بـ[الزواج المثلي]، ولكنني مع انتمائي، واعتزازي به متذمر من واقع الإنسانية المتوحش.
لقد ضجر من قبلي [أبوحيان التوحيدي] و[ابن مسكويه] وراعهما، ورابهما توحش الإنسان، واستساغته لدم جنسه، مع إمكانية التعايش.
إن هناك قواسم مشتركة بين الأطياف، والطوائف، لو أحسن المختصمون المغرر بهم استغلالها، لأمكن الوفاق.
إن الإسلام حين شرع الجهاد بشقيه: الدفع، والطلب، وضع له ضوابط، لم يلتزم بها أحد من أتباع الملل، والنحل، والطوائف.
وتحميل الإسلام جرائر المتوحشين المتقنعين به خطيئة، لا يمكن احتمالها، ولا القبول بها، ولا الصبر عليها.
الإسلام دين السلام، والتسامح، والوسطية، وما جاء إلا رحمة للعالمين، والذين يقتلون بوحشية، ويدمرون بحقد، لا يمكن قبول ادعائهم، فالإسلام منهم براء.
وإذا كنا مكلفين بدعوة غير المسلمين، فإن الواقع المرير، يحملنا على دعوة المتأسلمين، لمعرفة الإسلام، والتحرك على ضوء رؤيته، ومراعاته لمصالح الإنسان.
فالله كرم بني آدم، وللتكريم محققاته. لعل من أهمها حقن الدماء، وضمان الأمن، والعيش الكريم.
(يتبع)