د. حسن بن فهد الهويمل
المشتغلون بالقراءة على مختلف مستوياتها، واتجاهاتها، وخلفيات مقترفيها الثقافية، والنسقية، تُديِرُ رؤوسَهم نظريتا: [التأويل] و[الفهم]. ويتساءلون بذهول، وإلحاح.
- هل نظرية الفهم محصلةٌ طبيعيةٌ لـ[نظرية التأويل]؟.
في ظل هذا التساؤل، وقفت برهة أمام حقل القراءة، والتأويل، والتفكيك، والفهم في مكتبتي.
وقلت في نفسي : من السهل أن نعيش في هذه الدوامة، مادامت في الشأن الدنيوي، ولكن من الصعوبة بمكان، أن يُمَوْضَع [النص القرآني]. أو يجعل مادة للتشريح، والتقويض، والتفكيك على سنن البنيويين. وتُعْمَلُ فيه هذه المناهج، وتلك الآليات. فيضاف إلى ضلال الملل، والنحل ضلال القراءات الحديثة كما يراها [أركون] و[أبو زيد] ومن لفَّ لفَّهم.
في بعض الحالات المتوترة، تحلو لي ممارسة الهروب من الواقع السياسي المؤلم، لأخذ رشفات باردة، تطفئ لظى المعاناة من مصائر أمة كانت تحكم من يحكمها:-
[كم صَرَّفتنا يدٌ كنا نُصَرِّفها
وبات يَحْكُمنا شَعْبٌ مَلكناه].
كانت تشارك في اتخاذ القرارات المصيرية، وتفرض وجودها الكريم، ورؤيتها، وتأثيرها.
وهي اليوم أَسِيرٌ مكبلٌ، بطريقة عشوائية، وعنيفة، ومن حول الأسير وحوش دمويون، يتناوبون عليه بالركل، والضرب، والاستنطاق، ثم النحر كالأنعام. فماذا تراه سيقول، أويفعل؟.
والأسير في ردغةِ الذل، والمهانة، يَنْسى تفويض أمره إلى بارئه، ولا يمد إليه بسبب، ملتمساً وعده، ونصره :- {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
ولسان حالي يردد:-
[أمٌَتي كم غُصَّةٍ دامية
خَنَقَتَ نَجْوى عُلاكِ في فَمِي]
العربي اليوم، كالأعرابي الذي نفخ [عَبَّارته] بفمه، وأوكاها بيده. ولما لم يحسن النفخ، ولا الإيكاء، فقد تسرب الهواء، وهو يعبر النهر، ولماشارف على الغرق، استغاث بمن حوله. فكان الرد :- [يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ] فراحت مثلاً.
ما ألوذ به، للخلوص من ضغوط الواقع، يجعلني كالمستجير من الرمضاء بالنار. فالقراءة ربما تكون هي الأخرى من مفاتيح الشر. وماضل من ضل إلا بسبب القراءة غير السوية.
أحداث حسام، تتلاحق كما العِقْد المنفَرطِ، نواجهها باسترخاء، وبطء، ونحن أجهل الناس بها. وتتكرر الوقوعات، ثم لا تتغير المواقف، ولا التساؤلات.
ولما لم تكن القراءة قَصْراً على المسطور، فإن مصائب الأمم من أخطاء القراءة للنوازل، والأحداث.
الحياة كلُّها كتاب مفتوح. والناس كلهم قُراءٌ. رضوا، أم سخطوا. شاؤوا، أم أبوا.
ولما نزل نتجرع مرارة القراءات الخاطئة لتقلبات الأمور، ولما يزل هذا الصنف من القراء يزيدون في ارتكاسنا.
القراء لو تثبتوا، وتريثوا، ونبشوا ماتحت الظواهر، وقرؤوا ماتحت السطور، لحوصر الاختلاف، المؤدي إلى الشحناء، والتنازع، والمجازفة في الأحكام.
قلت إنني تصلبت أمام حقل القراءة، والتأويل، والتفكيك، ومناهج اللغة الحديثة، فراعني سكون الكتب على الرفوف المغبرَّة، على الرغم من أنها مليئة بالمردة، والعفاريت، والمتناقضات.
وفي حمأة التأمل ، تذكرت ماكان [العقاد] يقوله، وهو يتحدث عما في مكتبته من مذاهب، ونظريات، وملل، ونحل صارخة في التناقض.
ولست ببعيد عنه. فمكتبتي ملتقى التناقض. وظني أنني مسيطر عليها، ولا أزكي نفسي. والحي لا تؤمن عليه الفتنة !.
وكيف لا يَرُوعني التناقض، ومؤلفات السلفيين، والسنة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمتصوفة، والباطنيين، والمجوس، والفلاسفة، والملاحدة، وسائر علماء الكلام ثاوية، كأنها تتربص بي الدوائر.
تساءلت في المستهل عما إذا كانت [نظرية الفهم] وليدة [نظرية التأويل]. والمساءلة عملية إجرائية، تحتمل الصدق، والكذب.
نحن، أو قل المشتغلون بنظريات القراءة - لا نشك أن [نظرية المعنى] قد طُمِست معالمها، بمالَحِقَ من النظريات التأويلية، ومن ثم لم يعد للمعرفة الأصولية مكان.
تهون مصائب القراءة، إذا لم يكن الخطأ في الثوابت، أو في النوازل المصيرية.
لقد أصبح المَعْنَى أثراً بعد عين. وهذا الاندثار قَوَّض سائر البنى، والمسلمات.
ومثلما أن دخن الرباء، يصيب المُضَارب فيه، وغير المضارب، في ظل تحولات الأعمال المصرفية المجهولة المصادر، والإجراءات، فإن العبث القرائي المُشَرْعَن له بسيل من النظريات، يطال سائر القراء، في عوالم السياسة، والدين، والاجتماع، والتاريخ.
ولقد قلت من قبل : إن [الفكر المادي] المهيمن، استدرج مختلف التيارات، والمذاهب. وقَلَّ أن يسلم مفكر عربي من دخن هذا الفكر.
و[النظرية التأويلية]التي أفْسدت كل شيء، وبخاصة حين توسل بها من لا يُحْسن القراءة، لم تستقر على مفهوم واحد، بل تطورت. وتبدلت. وأصبحت تلهث وراء المستجد. حتى لكأنها تناقض نفسها.
المعذرون للتحولات السريعة في مناهج القراءات، يحيلون ذلك لـ [مابعد البنيوية]. وكأن صرعة [الما بَعْدِيَّات]منقذ للشطح المخيف.
والتأويلية الحديثه، بلغت الدرك الأسفل، حين عَدَلَت عن [بنية المعنى] إلى [بنية الفهم]. والأدهى امتداد نظريات القراءة للمسطور إلى قراءة المنظور من الأحداث، والنوازل. وهنا تكون الطامة الكبرى .
فقراءة معلومة بين دفة كتاب، على ضوء هذه النظريات ميسوره، ولكن قراءة العالم بين دفتي الكون على ضوء هذه النظريات من الموبقات.
والدخول في الذهول يبدأ من تصفح سطور الكون. فكيف بناء، ونحن نخب، ونضع بين سطور هذا الكون، وليس لدينا مِجْدافٌ قوي، ولا مَلاَّحٌ حاذق. لقد أضاعتنا نظريات القراءة. وامتدت إلى كافة الظواهر الإجرائية.
أضاعتنا دينا، وأخلاقاً، وصَيَّرتْنا من عداد المفلسين. وهي الأجدر لإضاعتنا سياسياً، وأمنياً.
لقد كنا نُعَوِّل على عصر التقنية، والحداثة، ونظن أنهما الأقدر على الأخذ بيد التائهين، ولكنَّهما خَيَّبتا الظن.
يُجْمع علماء النظريات القرائية، على أن مسألة المعنى، تتلاشى في ظل تأويلية الفهم .
لقد كنا نعيب قراءات الملل، والنحل، على الرغم من تداخلها، وحسن إدارتها للاختلاف، وبالذات قراءة المعتزلة، والمتصوفة السلوكية. وحين انهالت النظريات، تمنينا ماكنا عليه من قبل.
فالمنتج التأويلي للفهم، لا يؤدي إلى الحقيقة أبداً. والقارئ المستبد يُقَوِّل الأشياء مالم تقل.
إن القارئ يكتب مايريد ، لا مايريده المؤلف. ولهذا قيل بـ [موت المؤلف]،وصرعة الوفيات قَلَّصت كل سلطة، وضخمت سلطة القارئ.
القارئ اليوم هو سلطان الموقف. وهل نضمن قدرته، فضلاً عن عدله، وصدقه، وأمانته ؟.
إن سلطة النص حين تُسْلَب، تدخل الأمة في التيه. وهذا مايعيشه الفكر المعاصر، وبخاصة حين أُنْسِنَ المُقَدَّس.
ومن ظن أن مايجري على الأرض من وحشية، وعنف، وإراقة للدماء، وتدمير لكل شيء، وتفرق في الآراء، والأفكار، والمذاهب في معزل عن لعبة القراءة، فقد ضل ضلالاً بعيداً.
العالم الغارق في الفوضى الخائض في الدماء بأمس الحاجة إلى وضع ضوابط لقراءة المسطور، والمنظور. على حد سواء.
نحن نقرأ الأحداث على غير هدى، وتُصَرِّفنا نتائج القراءة الخاطئة.
السؤال الملح :- هل نحسن قراءة الظواهر الموجعة، على سبيل المثال [داعش] و[الطائفية] و[الصحوة] و[الحزبيات] و[اللعب السياسية] و[العداوت التاريخية]؟.
من أخطائنا أننا ربطنا عمل رائد الإرهاب [أبي لؤلؤة المجوسي] بـ [الرَّحَاءِ] التي كان يصنعها [للمغيرة بن شعبة]. وربطنا [نكبة البراملة] بـ [العباسة] أخت الرشيد. وأذْعَنَّا للقراء المتآمرين كـ[جرجي زيدان] عندما خَدَعَنا براوياته الإسلامية. وسَلَّمْنَا لأصحاب النظريات المادية الإلحادية، الذين غيروا مسار الفكر العالمي، أمثال [ماركس] و[دارون] و [فرويد] و[ودوركايم] وكلهم يهود متصهينون، متآمرون على الإنسانية. وإن كانوا أذكياء متبحرين.
إننا نهرف بما لا نعرف، ولو أحسنا القراءة، لما امتدت بنا الفوضى، ولما استمر معنا التيه.
هذه الترديات في درك الشقاء من حُوْسَةِ القراءة، للمسطور،والمنظور، على حد سواء . ومن الخير لأمتنا التائهة أن تلتمس منهجاً جديداً لقراءة النوازل، والأحداث.
إذ لو كنا في قراءاتنا السالفة على هُدَى من النص، والعقل، وحسن التدبير، لكنا الأقدر على إيقاف هذا التدهور المخيف.
القارئ الماهر من يستصحب مجسات التاريخ. وقواعد اللعب السياسة. ويستشعر الفعل، ورد الفعل، وحواضن الإرهاب، ومحرضاته.
لا نريد قارئا يبتسر الحدث، ويفصله من سياقه، كما لا نريد ممارسة القراءة المتسطحة، في أجواء الصدمة المذهلة.