د. حسن بن فهد الهويمل
عندما أعفي الأمير المتألق [سعود الفيصل بن عبدالعزيز] -رحمه الله - من منصبه، بناء على طلبه، بعدما أثخنته جراح أمته. جَمَعْتُ أمري لتوديعه، بكلمة تليق بمقامه، آتي بها على بعض مآثره، وأفضاله على بلاده، وعلى أمته، وعلى شريحتي خاصة، ممن ابتلوا بمتابعة التقلبات السياسية.
ولما لم ألملم أطراف المقال، الذي يفي بحقه، لأدفع به للنشر، صُدِمت بنبأ وفاته، فتعطلت عندي لغة الكلام ! وأحسست أن الصمت خير جواب، وخطاب.
ولكنني عندما قرأت مشاعر الخاصة، والعامة. الرجال، والنساء. الشباب، والكهول، في الداخل والخارج، أيقنت أنني إن لم أعبر عن مشاعري، فأنا أعق وطني، وأكتم محبتي لرجل حمل أخطر حقيبة، في أخطر مرحلة، فاستطاع أن يحافظ عليها من السقوط.
- وهل يضارع حقيبته ماسواها ؟.
إنها حقيبة سيادية مصيرية، أنهكه معها طول السرى.
لقد قال عن صحته: إنها تشبه أوضاع أمته. والحق أن أوضاع أمته أصابته في الصميم!.
فلقد فارق الحياة، وفي نفسه أشياء منها، كما يموت النحاة، وفي أنفس بعضهم شيء من [حتى].
ومن ذا الذي لا تسوؤه الأوضاع الموجعة، وتكتم أنفاسه الفوضى المدمرة. لقد سيئت وجوه الأبعدين، فكيف بمن يصطلي بنارها.
[سعود الفيصل] الذي ظل شامخاً في زمن الانكسار، متفائلا في زمن الإحباط. دخل التاريخ السياسي مع مجموعة من وزراء الخارجية.
مات من مات منهم. وخرج من خرج. وفشل من فشل. وحوكم من حوكم. وظل كما هو في زكائه، وذكائه، يودع فريقاً، ويستقبل آخر، من وزراء العالم : العمالقة منهم، والأقزام. ويروض نفسه مع كل المستويات. مستوعباً ذلك في حلمه، ورباطة جأشه، وبعد نظرة، وسلامة مقاصده، وسعيه الدؤوب لرأب الصدع، وفك الاشتباك، والتقريب بين وجهات النظر، واحتواء المخالف، أو تحييده.
[دبلوماسية] الفقيد، التي أثارت الاعجاب، وأراحت الضمائر، تقوم على ثلاثة محاور. هي المحُددات لِسِياسة المملكة، منذ عهد المؤسس:
- نزع فتيل الصراع.
- العدل في التعامل.
- التعاون على مايكفل الحرية، والسيادة، والرخاء لكل الأطراف.
وماجاء من إضافات، فهي هوامش، أو تداعيات، يقتضيها الفعل السياسي.
وعلى ضوء هذه المحاور، لم يأسف على قول كتبه، ولا على كلام ارتجله، ولم يُضْطَرَّ يوماً من الأيام إلى الاعتذار، أو تأويل مايقول، أو نفيه. ولم يُحْرج حكومته مع صديق، أو عدو.
كان ثابتاً في قضايا أمته المصيرية، مستعداً لمواجهة نوازلها المربكة، متوازن الرأي عند اضطراب الخصوم. رابط الجأش في الجدل، ثابت الخطى في الوحل.
تبدهه المواقف العصيبة، فيروضها. وتفاجئه المكائد العظيمة فيجهضها. ويُحاول الخصوم استفزازه، فيمضي، وكأن السب لا يعنيه.
حتى لقد أصبح بهذه الحنكة، والحكمة، والأناة عَرَّابَ السياسةِ، يحتمي به من دونه، ويقتفي أثره من الْتَبَسَتْ عليه الأمور.
إنه قوي في زمن القوة، شامخ في زمن الانكسار ، لا يُعَرضِّ أمته للضعف، ولا يبلغ بها مرحلة الاستسلام للواقع، ولا يضطرها إلى هوامش الطريق.
يعرف متى يكون الصمت بقوة الخطاب. ومتى يكون القول بقوة الفعل. ولهذا أصبح وجوده في أي مؤتمر كاف، لتجسيد رؤية أمته.
لم يكن ثرثاراً يَضِيعُ أولُ حديثه بآخره، ولا عيياً تحتبس الحجة في صدره، فلا يكاد يبين، ولا مغلوباً تتقحمه العيون.
كما لم يكن عَلاَّ يُهاج، ليضطرب في قوله، ويُمَكِّن خصمه من زمام المبادرة. ومن ثم حاربه خصومه، وكادوا له، وباغتوه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله. ولكنه يَحْبِس أنفاسهم بتعاليه فوق الترهات، وثباته في أحلك المناسبات، متمثلا:-
[إذا جَارَيْت في خُلُقٍ دَنِيْئٍ
فَأَنْتَ ومَنْ تُجَارِيْه سَواءُ]
يتوسل نجاحاته بالإيمان الصادق، والعزم المتوكل، والثقة القوية بالله، وممارسة السياسة المتوازنة، التي لا تريد إلا الإصلاح.
إنه أقدم وزير خارجية في العالم، وأنجح وزير. مَثَّلَ أمته في كافة المحافل الدولية، وفي أحلك الظروف، وفي أعنف التحديات، واستطاع بـ[دبلوماسيته] الشفافة، والناعمة القوة أن يحمل الأطراف المناوئة على الإذعان لرؤيته، أو اللجوء إلى الحياد.
لم يكن مجازفاً في القول، ولا في الفعل، إنه يدرك وضع أمته، وامكانياتها، والمدى الذي تستطيع التحرك فيه، ومن ثم لم تسقط كلمته على الأرض، ولم يمح النهار عنده كلام الليل.
لقد نَحَّى المثاليات الجامحة، والعنتريات الفارغة ، وتفادى الإذعان المزري للواقع المتردي. فكان كالقائد العسكري المحنك، الذي يتصرف بوعي، في حال الهزيمة، والانتصار.
تَفَجُّع العالم عليه زاد من أحزاننا، وتأبين العالم له زاد من شعورنا بالاعتزاز به. والناس شهود الله في الأرض.
لقد كان كبيراً في حياته، وهو اليوم أكبر منه حياً، وتلك سمة العظماء الذين يولدون حين يموتون:
[والذكر للإنسان عمر ثاني]، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.
وما يقوله المؤَبِّنُون من سمات حميدة، ومآثر خالدة، لا تزيده عند العالم معرفة بمجهول، ولكن المفارقة الموجعة، غُوْلِبَت بترديد تلك المآثر، أملاً في إطفاء لهيب الفراق.
رحم الله الأمير الودود [سعود الفيصل] رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته. لقد عاش زمن العُري الإعلامي، واللجاجة الفارغة، والمجازفة في الاتهامات، والتصنيفات، واستطاع أن يَمُرَّ بلغوها مرور الكرام، امتثالاً للهدي القراني :- {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }.
لم اسمعه ثائراً، تضطرب الكلمات في فمه، ولم أره منفعلاً يجارى خصومه في اللجاجة.
يعرف متى يتكلم. وكيف يتكلم. وبماذا يتكلم. وما مستوى الكلام، من حيث ارتفاع النبرة، أو هدوء الأداء، وعمومية القول، أوتحديد المراد.
يتقن لغة التفاوض، ويحسن لغة السياسة الحَّمالة، ويجيد النفاذ من محاصرة الإعلاميين، دون ازدراء بهم،أو إثارة لهم. لا يعطيهم شيئاً يكشف أسرار السياسة، ويُبْقِي على مشاعر الرضى عندهم.
إنها لغة السياسي المحنك، الذي يملك القدرة على ملء فراغ الفضوليين بالقول الحمَّال، بحيث لا يقول شيئاً، لا يود الإفضاء به.
يقول كلمة واحدة، أو يستخدم لغة الجسد، وتتصدر هذه الكلمة، أو تلك الإشارة نشراتِ الأخبار، وواجهاتِ الصحف.
ذلكم هو الأمير المسدد [سعود الفيصل]، الذي ظلت قامته شامخة، مهيبة، جذابة.
لم أره وجهاً لوجه، ولم أسعد بلقائه، حتى حين كنت أحد وفود الصداقة في أزمة الخليج.
إذ كان مقرراً أن نلتقي به، وبوزير الداخلية، رحمهم الله جميعاً. فتم اللقاء بوزير الداخلية، ولم نتمكن من لقاء سموه، لتتابع مهماته.
لقد فقدت المملكة رجلاً مَنَحَها زهرة شبابه، وقوة فتوته، وتجارب كهولته. وفقد الخليج العربي، والعالمان العربي، والإسلامي مرجعاً سياسياً يعرف دخائل السياسة، وقواعد اللعب.
ولا نقول عند ذهول الصدمة، إلا مايرضي ربنا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
وعزاؤنا، ومواساتنا لوطننا، ولقائدنا، ولأبناء الفقيد، وأهله، وإخوانه، وعلى رأسهم الأمير الأريب، الأديب [خالد الفيصل بن عبدالعزيز].
وعزاؤنا أنه لا خوف علينا، فبلادنا بفضل الله ولود، ودود. إذ كلما طُلَّ منا سيد قام سيد:
[قَؤُوْلٌ لِما قال الكرامُ فَعُولُ].