د. حسن بن فهد الهويمل
زملاءُ الحرف، هم وحدهم الذين يُقَدِّمون العَلْقَم لمن يحبون، كأفضل هدية.
أتدرون لماذا، وكيف؟.
إنهم لا يُقَدِّمون درهماً، ولا ديناراً. وكيف يُقَدِّمون مثل ذلك، وقد أدركتهم حرفة الأدب، التي لم يسلم من دائها أهل الحظوظ، فضلاً عن صعاليك الحرف.
فهذا (ابن المعتز) الخليفة العباسي الذي حكم يوماً، وليلة. لأنه أديب، أدركته هذه الحرفة المعشوقة المشؤومة, فسلبته الملك.
ليس مهماً أن تطَّرد تلك السِّمة الخاصة، أو تتخلف في بعض الأحيان.
المهم أن الأدباء، والمفكرين، لا يتهادون إلا الكتب، أو لفت الأنظار لمن برع في فكر, أو أدب، أو نقد، أو غرد خارج السرب.
وأنت حين تتلقى تلك الهدايا، تضيف إلى أتعابك أتعاباً، وإلى معاناتك معاناة، وإلى مشاغلك مشاغلاً، ثم تجد نفسك سعيدة في هذا الشقاء، على سنن:
(ذو العقل يشقى في النعيم بعقله).
وكل ذلك لا يثنيك عن تلقي الركبان، أو انتظار ما يأتي.
إذ كل كِتَاب مُهْدَى، أو مدلول عليه، ينطوي على مالا قبل للقارئ باحتماله.
والإيذاء قد يحز إلى العظم، حين يهز الثوابت، وينقض الغزل، من بعد قوة أنكاثاً.
الأدهى, والأمر حين يكون صاحب الفكر الذي عُرِّفت به، من الذواقين، الذين لا يصبرون على طعام واحد. بحيث تراهم كالقرود، يقفزون من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى أخرى. لا يقر لهم قرار، فكأنهم ضَوْءُ مرآة في كف أَشَلٍّ. ودعك من الكتب، وخداع العناوين.
ومما يزيد الشقاء شقاء، والعناء عناء تَحَكُّم العواطف في بعض المواقف. من هنا أصبح أصدقاء الحرف عبئاً ثقيلاً على أنفسهم، وعلى لداتهم.
والمُعَبَّدُ للحرف، كالعاشق للحسناء، يهون عليه ما يلاقيه من الشقاء: (ومَنْ يَخْطُبُ الحَسْناءَ، لا يُغْلِها المَهْرُ).
فكم يهون عليه ما تجره من عداوات، وما يحاصره من شكوك في سبيل معايشة الحرف سماعاً، أو قراءة.
أحسب أن السُرْعان قد أجمعوا على مبالغتي، وتهويلي للأمر. والحق أنني واقعي، لا أشهد إلا بما علمت. فالتعرف على المفكرين، واحتواء الكتب، يضاعف المعاناة، ويشتت الفكر, ويُكَثِّر سواد الخصوم.
فالعامة حين تفاجئها الرؤى المخالفة للمألوف، تثور, وتضطرب. فإذا ظفر بها مناوئ ماكر، ركب الموجة، ودفع بها إلى منازعة الأمر أهله. وذلك ما فعله عوام الحنابلة مع العالم الموسوعي (أبو جعفر الطبري) أن صدقت الروايةُ
وحين أحمل على المثقفين، وأنا منهم. أو قل: من شيعتهم, أعرف من واقعهم مالا يعرفه من سواهم.
الأدباء، والمفكرون، يتباهون فيما بينهم، بما يضيفونه من كتب إلى مكتباتهم، أو ما يتعرفون عليه من علماء، ومفكرين، وأدباء. مَتَى كان في هذه الكتب إضافة جديدة، أو كان لدى الأناسي معارف، ليست معهودة عندهم.
وسيان عند المعبدين للحرف أن يكون هذا الجديد مفيداً، وظهيراً لما يميلون إليه، أو لا يكون.
إذ ربما يكون المخالف أجدى من الموافق، فهو باختلافه، يشكل إضافة معرفية من جهة، وحافزاً للتزود من المعارف، للتصدي، والتحدي، والصمود من جهة أخرى.
والخصوم يَحْفِزُون خصومهم على التزود، للتّحَصُّن. وصراع المعارف سلاحها الكتب، وخنادقها المكتبات.
فالحراك الثقافي، وقوده الاختلاف، وفي الاختلاف عناء، وشقاء، ولكن العواقب ربما تكون حميدة. متى أحسن أطراف الصراع إدارة الاختلاف.
وحين لا يكون اختلاف بين الأساطين، لا تقوم الحاجة إلى الاجتهاد، وإذا سُدَّ بابه صَوَّح نبت المعارف، ورعي الهشيم. ومن أراد التعملق فليستسغ العلقم، وليستقبله من لداته كالشهد.
أصدقاء، وزملاء كثيرون، عَرَّفُوني على علماء، وأدباء، ومفكرين، ونصحوني بقراءة كتب في مختلف حقول المعرفة. وهذا الاستدراج مبعث العناء المحبب.
وهدايا التعريف توسَّعَ مجالات اهتماماتي، وتمدني بمعارف لم أكن على صلة بها من قبل، وإن وتَّرَت أعصابي، وزادت من خوفي، وحَمَّلَتنِي كما (امرئ القيس) مسؤوليات جديدة. قد أقول أمامها: (لا جِدَّ اليوم, ولا لهو غداً). وإذ لا يسعني السكوت حين تنتهك الحِمَى الدينية، أو الفكرية، فإن المسؤولية تستدعي الاستعداد للمواجهة.
ولربما تكون الأمور أشد وضوحاً في أجواء ثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات، وتعدد القنوات، وتهافت العلماء، والمتعالمين عليها.
لقد أصبح الشيء، ونقيضة في متناول اليد.. بل أكاد أقطع بأن المعلومة تدخل عليك عقر دارك، دون طلب، بل دون استئذان.
وإذا كنت من قبل تزود من يأتيك بالمعارف، فإنك اليوم تُزَوَّدُ بها دون عناء:
(ويَأتِيك بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّد)..
ومع فيوض المعارف، وتدفقها، يظل تبادل المثقفين للهدايا قائماً. فكل مثقف تسرح نظراته في حقول مغايرة، ومتعددة، يجد نفسه مُنْعِماً مُتَفَضِّلاً، حين يلفت نظر لداته إلى طرفة، أو إلى مفكر اكتشفه بالصدفة.
عشرات المفكرين تَعَرَّفت عليهم، ومئات الكتب, اشتريتها، لم أهتد إليها، إلا بمشورة زميل الحرف.
ومع ما ألاقيه من عناء كغيري، أكبر هذه اللفتات، واستزيد منها. لأنها في النهاية من علامات الطريق الثقافي.
لن أجنح إلى ضرب الأمثال، فالأمر عصي، والكثرة تحول دون الانتقاء.
لكنني سأشير إلى بعض الظواهر. والحاضرون سيدركون المراد..
لفت نظري أحد المتابعين إلى مفكر خطيب، تتوازن عنده لغة اللسان، والجسد، والمشاعر. يتحدث بوعي، وعمق، وشمولية، وطلاقة. ويمتلك القدرة على المراوغة، وإمساك العصا من الوسط.
وحركة الجسم عنده تنازع حركة اللسان. وكلما خشي توقف النظارة عن المتابعة. راغ كما يروغ الثعلب، وهَدَّأ الأنفس، ثم عاد إلى ما كان يود إيصاله من رؤية فيها جنوح، وجموح، وتناقض، وتعميم.
لقد قرأ التاريخ الإسلامي بوعي، واستطاع أن ينتقي الموهنات والمشككات. ومهارته في لَيِّ أعناق النصوص، وهي سمة يؤتاها المتماكرون، الذين يبيتون مالا يرضي الحق، والصدق.
الشيء الذي كشف مَخْبوءه، انزلاقه مع الهوى، وبحثه عن البضاعة الرائجة، واستجابته للمدلسين، والمزورين، وإنهاك نفسه، ومحصوله المعرفي بالتعذير، والتبرير, للمتشابهات.
نحفظ له، ولمثله حقه المعرفي، وقدرته الجدلية، وبراعته في تفكيك النصوص، والتوسل بالتأويل، والتسلل من بنية المعنى، إلى بنية الفهم، والإيجاف بالمتشابه، وطلاقة لسانه، وخفة حركته.
فالعدل مطلوب مع الصديق، والعدو: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ودَاءُ المشاهد عندنا، أننا حين نختلف مع أحد، نسلبه قدراته، وإمكانياته، ونجرده من كل فضيلة. وهذا ظلم لا يتأتى معه الجدل السوي، ولا الاجتهاد المشروع.
إننا نَزْوَرُّ، أو نتغافل عن الجانب الممتلئ من كأس الخصم. والمصداقية حين لا تكون في سائر المواقف، يفقد المجادل أهليته للجدل.
نعم، من أعدائنا، وخصومنا من نقوم لهم إجلالاً، لما ينطوون عليه من معارف، وما يتوفرون عليه من قدرات فائقة في الجدل، وماهم عليه من استقامة في السلوك، ومالهم من إضافات معرفية، لا يمكن التغاضي عنها.
ما نوده، ونحن نتلقى هدايا العلقم، أن نحسن إدارة الاختلاف، وأن نتفسح للمخالف، وألا نركن إلى جاهزية الأحكام، واحتكار الحقيقة.