د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
كان صباح يومٍ غدقٍ في عسير؛ تلك المنطقة الطافحة بين الجبال حتى أصبح مطلبها عسير، كما قال شاعر النور غازي القصيبي -رحمه الله-:
ونحنُ عسير مطلبها عسيرٌ
ودون جبالها برقٌ ورعدُ
وذاك الرعد والبرق يرسلان بشائرهما لتزيّن آفاق عسير عِهاداً يسرّ الناظرين ويروي الظمأى:
عِهاد الغيث منهمراً سكوبا
مُلثّاً يحمل الربع الحبيبا
تُغاديه السحائب مُدجناتٍ
ويمنح طيبه المعهود طيبا
فما أبهاك يا أبهى جناباً
وما أنداك يا أبها هبوبا
في مطالع يوم عسيري جميل ؛أشرعت قطاعات الأمن أبوابها لقيادة حشود الحماية المكتنزة ؛تزدحم بعشق أزلي للأرض وساكنيها؛ حتى أُسقطت في كل فضاءات المشهد صور الإصرار على أن تُشعل تلك الحشود شموع الطمأنينة في فضاءات الناس, فتصبح مضيئة جذلى.
نعم، في ذلك اليوم كانت المراكب تنساب, وهي تحمل عسير فوق صهوتها بشموخ وهيبة، وفي ذلك اليوم أيضاً وما سواه من أيام عسير الشماء كان إعداد قوة وقوات؛ وتجهيز حشود الأمن الوطني ضد مروعي أهله وقاطنيه, حيث إن أولئك المروعِين قُطّاع طُرق يمدون أيديهم في الظلام بغتة, ويخطفون الحياة؛ وعندما تكون مباغتة فلا سبيل للانعتاق والنجاة إلا من رحم ربي.
وفي مصنع إعداد رجال الأمن كان نداء الصلاة واجباً حيث نحن في بلاد دينٍ ودولة:
أشارت إلى الدنيا بإصبع هيبة
له الحق ردء والعقيدة وازعُ
وكان متدربو الأمن ينعتقون من قوانين التدريب, ويتهافتون إلى دار العبادة (المسجد) ذلك الفضاء الروحاني الذي يتصل فيه المخلوق بخالقه ليس بينهما حجاب, ولا فاسق كذّاب, وكانت الأماني أن يعبدوا رب الخلق ويؤدوا فرض الصلاة ويعودوا لمناكب الحياة ليمشوا فيها, ويأكلوا من رزقه, ولكن لم يكن ذلك المسجد بمنأى عن مقاصد الضالين من البشر الذين جعلوا الارهاب وترويع الآمنين شعار حياة, ثم إن ذاك الشعار نما في أعشاش أذهانهم السادرة في الغيّ إلى حرابة المؤمنين, وقتل المصلين في بيت من بيوت الله وهو المسجد الذي كان في مقرّ قوات الطوارئ الخاصة في أبها ونتج عنه استشهاد وإصابات.
قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء 93 .
إن الحدث لمن لم يحضره قد يكون جزءًا من ذاكرة تقافزت مع الأشلاء, وقد يكون قراءات جديدة في وطن لم يشهد في بيوت الله إلا شعائر الله, ولم يشهد رجال الأمن فيه دماءً وأشلاء إلا في المواجهات وليس في الصلوات, فلا شيء يفصلهم عن رب العباد في ذلك المكان الطاهر المتواري عن الثكنات والحشود؛ ولكن البغاة جعلوه ساحة ومستراداً لغوايتهم وتنفيذ مآربهم في زعزعة استقرار مواطن هذه البلاد الذي ملأه حبها فأصبح سلوكه نحوها ودوداً حفياً ,وما علم أولئك المعتدون أن الله قد توعد من قفز فوق أسوار المساجد بالعذاب العظيم.
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة البقرة 114 .
ولقد ومض في ذهني عندما دوّى انفجار مسجد قوات الطوارئ بعسير مشهد أشلاء الشهداء في القُديح والعنود وفي الشقيقة الكويت, تلك المشاهد قرعت قلوبنا حزناً على الشهداء, وشفقة بقلوب ذويهم, وابتهلنا إلى الله أن يكرم المصابين بالشفاء العاجل, وأن يهيئ لبلادنا من أمرها رشدا, وأن يمنح رجال الأمن قوة إلى قوتهم وفطنة فوق ما لديهم منها.
إن حرّ الجريمة ذابت فيه كل مباهج عسير وشغفها في ذلك اليوم, ولكنها تلاحمت وانتظمت مع أنفاس الشهداء الزكية. وعندما تواترت مصائد الإرهابيين نحو بلادنا دون خارطة لنمزق خطوط الإمداد, ونحطم العتاد؛ فإن قيادتنا حشدت لها الحشود وضربت أمثلة عليا في مكافحة الإرهاب ودفن خلاياه شهد بها العالم؛ ومازال أمام قادتنا أعانهم الله حنادس ومغارات ملأى بخشاش البشر, ودراما طويلة الفصول لابد أن يسدل ستارها؛ فأين منّا الحوار الوطني ليفتح أبوابه للعامة قبل الخاصة من أجل عيون الوطن, وأين منا الإعلام ليكون الجندي الأول في جبهة الحماية الوطنية, وأين منا التعليم ليفتح شُرفات الوطن أمام النشء ليفخروا أنهم على أرض النور والمقدسات والكرامة, وأين منا صناعة ثقافة تتدفق في جميع الاتجاهات تحلو وتستطاب وتكون حصنا منيعا أمام تغلغل الفكر الضال إلى عقول أبنائنا؛ ونداء أخير إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف حيث إن بلادنا في حرب شرسة مع الإرهاب فلعل الوزارة تنتهج في حماية المصلين داخل المساجد التوجيه الرباني لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (102) سورة النساء 102 .
حفظ الله بلادنا وقيادتنا الرشيدة ؛وتقبل الله الشهداء في كل موقع قضوا نحبهم فيه, ومنح أكاليل الشفاء للمصابين إنه سميع مجيب.