سلمان بن محمد العُمري
حضرت مجلساً لأحد كبار السّن، ممّن تجاوز السبعين عاماً، ممّن وهبه الله مع التديّن سمو الأخلاق والكرم وثقافته العالية في مختلف العلوم والمعارف والفنون.
في هذا المجلس العامر الذي كان أغلب حضوره من فئة الشباب انصبّ حديث الشيخ الفاضل على حسن التعامل في توقير الكبير، والتلطّف مع الصغير، والإحسان للضعيف، والبعد كلّ البعد عن المشاحنات، والغضب، والحسد، والحقد. وأورد في ثنايا حديثه قصّة «حقد البعير» التي تسمر الشباب في أماكنهم إنصاتاً لسماعها، وتأكيده عليهم في ثنايا الحديث ألا يكون أحدهم حقوداً كالبعير!!
والحقد داء دفين، وخطر، وهو نتاج الجهل وسوء الظن والشك، والرغبة في الانتقام، والعداوة والتشفّي.
وقصّة «حقد البعير» مشهورة ومتداوَلة عند الرواة والمهتمّين بالأدب الشعبي، حتى أنهم قالوا: لا غدر إلا غدر البحر، ولا حقد إلا حقد الجمل. والقصة هي:
(غضب صاحب إبل يوماً على جمله فقام بضربه ضرباً شديداً. ومن خبرة ذلك الرجل عرف أنّه لن ينجو من حقد البعير، ولا من غدره، حتى من نظرات البعير «أصحاب الإبل يعرفون طبائعها ورغباتها حتى في الانتقام». فقام مسرعاً ببيعه لإحدى القبائل. ومرّت عشر سنين كاملة والبعير من صاحب إلى صاحب، ومن قبيلة إلى قبيلة، ومارس ذلك الرجل حياته العادية. وفي يوم من الأيام وهو في سفره مر بقبيلة من القبائل الذين هبّوا لإكرامه واستضافته، ونصبوا خيمة خاصة به، يأتيه فيها الطعام والشراب، وينام فيها مرتاحاً من عناء السفر.
وأثناء النهار رأى صاحبنا هذا «جمله القديم»، ورأى الجمل صاحبه القديم «وعرف كل منهما الآخر». وحينما جاء الليل، وانصرف كلٌّ لخيمته.. قام صاحبنا بعمل عجيب وغريب: أخذ يجمع الرمل والأحجار الرملية داخل خيمته، وخلع بعض ملابسه، وحشاها بالرمل والأحجار وأكثرية ملابسه حتى غطاء الرأس، وهرب.
وفي الليل قام البعير بتقطيع كل خطام أو تعقيل مربوط به، وجاء إلى «الكوم الرملي»، وبرك عليه، وصار يطحن ويطحن بنحره ممزقاً الملابس وكل شيء تحته، حتى اطمأن البعير أنّه قضى على صاحبه بالضربة القاضية.
وتمر السنون تلو السنين، ويمر صاحبنا بأحد الأسواق، فإذا هو ينظر إلى جمله! والبعير ما إن وقعت عيناه على صاحبنا هذا إلا ويسقط وقد فارق الحياة حزناً وكمداً وقهراً).
مثل هذه القصص الحياتيّة المعاشة تنطق عن حقائق بالغة الأهمية، ووثيقة الصلة بالواقع، وتمثل تجارب حياتية مديدة، عاشها أناس مجربون، خبروا الحياة، وخبرتهم؛ وبالتالي صاغوا ما وجدوه مناسباً لوصف حالة ما.
والإنسان يتعرض لمواقف حياتية يومية، وبشكل دائم ومتكرر، ويختلف تأثر الإنسان وتعبيره عن الموقف من حالة لأخرى، ومن إنسان لآخر، حسب طبيعة الموقف وشدته، وحسب الظروف المحيطة به. والمواقف قد تكون سلبية، وقد تكون إيجابية، وقد تؤثر في الإنسان، ويؤثر فيها وبمن حوله بأشكال مختلفة.
إن بعض الناس قد يصدرون أحكاماً تتسم بالتعسف والحقد بدون أي أسباب ظاهرة سوى الحقد الدفين في قلب صاحبها. ونحن لا نتحدث عن ذلك، وإنما نتحدث عن الإنسان الذي يمثِّل غالبية البشر، والذي يتعرض لمواقف مختلفة، فيرتكس لها، وقد تكون المواقف مؤلمة، وقد تسبب له صدمة، وخصوصاً عندما تأتي من أشخاص لا يتوقع حصولها منهم، أو من تجمعات ظنها رائعة، أو حتى من قِبل من يكنّ لهم كل الاحترام والتقدير، ولكن في النهاية يخذلونه أو يتصرفون ضده بشكل أو بآخر، أو يحرجونه؛ وبالتالي يدفعونه نحو تصرفات لا يحبذها، ولا يطلبها، ولا يريدها.. وقد يخرجونه عن أطواره. إن هذا الأمر طبيعي، ويتجاوزه الإنسان بعد مدة من الزمن بأحد شكلين: إما أن يثبت الطرف المتسبب بالقضية حُسن النيّة، ويعرف أنه ارتكب خطأ مع ذلك الشخص؛ وبالتالي تصفو القلوب. وإما أن تبقى الأمور على ما هي عليه؛ وبالتالي يحاول الشخص المظلوم الابتعاد عن ظالميه، ونسيان ما حصل وتجاوزه، وبدء مسيرة حياة جديدة.
وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّه الأَلَدُّ الْخَصِمُ» (رواه البخاري ومسلم).
لقد امتدح الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين الذين صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، فلم تحمل حقدًا على أحد من المؤمنين: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمنوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 8-11)
وقد تضعف النفس أحياناً، وتكره، وتبغض من جرّاء تصرفات غير مسؤولة، أو وشايات حاقدة مكذوبة، لكن العاقل الفطن لا تستقر هذه البغضاء في نفسه؛ حتى لا تصير حقداً.
يقول الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين): «وأشدُّ الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة، فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التقاطع يقع أولاً بالآراء، ثم بالأقوال، ثم بالأبدان».
إن الأمر غير المقبول هو أن تتحول الحالة لحالة حقد متبادلة بين الطرفين؛ فهذا أمر لا يليق بالإنسان، وعادة لا يستطيع ذوو القلوب البيضاء الحقد، بل يحاولون نسيان ما حصل، إما بإصلاح ما بدر أو تجنب ما يثير المشاكل، وهذا نوع من أنواع الصفح. إن الصفح يتجاوز ما ذكرناه لحالة أكثر شمولية وعمومية، تلف حياة الإنسان بكاملها. والإنسان الذي يتصف بالصفح هو إنسان قوي جداً بالمعنى الكامل؛ فليس القوي بالصرعة، وإنما القوي هو الذي يملك نفسه عند الغضب. والعفو عند المقدرة أمر كبير، لا يقدر عليه إلا الرجال الأشداء الأقوياء عقلاً ونفساً.
إن الصفح من طبيعة الإنسان السليم، ولكن لا يعني ذلك التسليم بالخطأ، والسماح بتكراره، أو تقبّل الإهانة مراراً وتكراراً؛ لأن النفس الأبية تأبى ذلك، ولو كلفها حياتها، ولكن غالب المواقف الحياتية يناسبها الصفح والعفو، وبهذا تحلو الحياة. والله الهادي إلى الخير والسواء.
* * * *
ما أصدق وأعذب ما قاله الشاعر:
«الحقد» داءٌ دفينٌ ليس يحملُه
إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعللِ
مالي وللحقد يُشقيني وأحملُه
إني إذن لغبي فاقِدُ الحِيَلِ؟!
سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي
ومركبُ المجدِ أحلى لي من الزللِ