د. حمزة السالم
منذ ثورة الشيطان الأكبر الخميني، أي لأكثر من خمسة وثلاثين عاما، والولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي ناصبت إيران العداء، ففرضت عليها حصارا اقتصاديا وماليا عالميا، وحصارا عسكريا داخل مياهها الإقليمية. وحارشتها في الخليج عقودا، تنتقم لدول الخليج إذا ما تعرضت إيران ناقلاتها أو سفنها، فتدمر مصافي النفط الإيرانية، وفرقاطاتها. والهجوم الأمريكي على إيران عام 1988 بسبب تلغيم إيران الخليج العربي، يعتبر في زمنه، مواجهة عسكرية حقيقية، تعد الخامسة في حجمها بعد الحرب العالمية الثانية. والعنف الأمريكي ضد إيران، وتدميرها للمصافي ومنصات النفط الإيرانية، يشهد له، الحكم ضد أمريكا من محكمة العدل الدولية التي لم تستطع أن تغض النظر عنه، فتجد له مبررا.
كما شُددت على الإيرانيين إجراءت الد خول إلى أمريكا، وضيقت عليهم الخناقات في مطاراتها. ورغم حلف العراق مع روسيا، العدو الاستراتيجي لأمريكا، فقد وقفت مع الخليج العربي في تأييد العراق، بالإستخبارات والسلاح والخطط، سرا ثم علانية. فقلبت كفة الحرب لصالح العراق وقد كاد أن يخسرها عام 1982 لولا التدخل الأمريكي. وتغاضت عن جرائم العراق ضد الأكراد واستخدامه الغازات السامة في ضرب القرى الكردية وأشهرها حلبجة. كل ذلك، ولم يكن هناك اعتداء إيراني مباشر على الولايات المتحدة الأمريكية، بعد اعتدائها على سفارتها في طهران وأزمة الرهائن.
وأدخلها الرئيس الأمريكي بوش في محور الشر مع كوريا الشمالية والعراق، مشيرا لهزيمتها، كما هزمت أمريكا دول المحور النازية والفاشية واليابانية في الحرب العالمية. وضغطت أمريكا على حلفائها الأوربيين، حتى انضموا للحصار الاقتصادي قبل أعوام. ولا يبعد أنها أغرت الصين وروسيا، بأموال الإيرانيين وغيرها، لكي لا يعرقلوا المفاوضات النووية الأخيرة. فقد وزعت أمريكا الأموال الإيرانية المحتجزة، على حلفائها في الاتفاقية، تحت عقود مشاريع تنموية لإعمار إيران.
كل هذا التاريخ الطويل من العداء والمواجهات الحقيقية، لا خطابات ناصرية صدامية جوفاء، وفجأة يحللها حُذاق العرب بأنها اتفاقية اسرائيلية أمريكية تُخطط منذ ثلاثين سنة، لإعطاء إيران الهيمنة على الخليج والعراق.
وماذا عند ملالي إيران يُرغِب امريكا فيهم إلا الكذب ونقض العهود، مقابل خسارتها لحلفائها العرب التي قامت على الثقة والتعاون خمسين عاما. ولماذا تميل أميركا مع مذهب الشيعة دون مذهب السنة؟ أمريكا شعبا ودولة، لا تضع للأديان أو المذاهب أي وزن في الاعتبارات العملية، ويشهد لذلك قصرهم الرئاسة الأمريكية بين مسلم بالأصل وبالتهمة، وبين متدين من المورمن، يؤمن بنبي غير عيسى وبكتابه لا بالإنجيل.
وما هذه الاتفاقية التي سلمت بها إيران 9000 من منصات الطرد المركزي وهي كل ما تملك من المنصات المتطورة التي لا ينطلق سلاح نووي بدونها. وأقفلت مدنا كاملة قامت على الصناعة النووية، وسلمت معها مواد كافية لانتاج 12قنبلة نووية، وقد كانوا على شفا إنتاج الأولى خلال الشهرين الماضيين، ثم بمقدرة انتاجية لقنبلة كل شهر بعد ذلك.
- اتفاقية لا تستطيع فيها إيران عمل أي عمل يتعلق بالسلاح النووي مهما صغُر العمل، ولو كان مجرد بحث علمي. ولا يستطيعون لخمسة وعشرين عاما، تخصيب يوارنيوم مهما كانت أغراضه، بأكثر من 3.5% - وهي نسبة بعيدة عن 60% الحد الأدنى للسلاح النووي-.
- اتفاقية تلزم إيران بقرارت الأمم المتحدة التي رفضتها من قبل، وفيها قرارت بمنع إرسال إيران الأسلحة لحزب الشيطان في لبنان، وللشيعة في العراق وللحوثيين في اليمن -والذي طُبق بصرامة من قبل الاتفاقية - أو التدخل في ليبيا أو التعاون مع كوريا الشمالية.
- حرب استنزاف أمريكية لإيران هي التي أخضعت شياطين الملالي فأركعتهم لاتفاقية، وحسب تصريحات كيري وزير الخارجية، جعلت من روحاني أن يطلب من الأمريكان التوسط في قبول زيارته للسعودية ومقابلة ملوكها ليفتح صفحة جديدة من العلاقات.
- فاللبيب الفطن من ينظر للأمر بتجرد وموضوعية، فيقرأ الماضي والحاضر والمستقبل. وليتأمل في الإمكانات الممكنة والبدائل المطروحة، وما هي نتائجها المحتملة.
- وليحذر فلا ينظر لزخرفة عبارات الاتفاقية ولطافة ألفاظها، بل للمعاني الحقيقية الدالة عليها الألفاظ والعبارات. فالاتفاقية كانت رصاصة الرحمة التي قتلت طموحات الشر والمكر لشياطين الملالي، ولا يُمثل في جثة عدوه إلا خسيسٌ قليل مروءة لا يسود قومه.
- هذه إيران وتاريخها العدائي واتفاقياتها، فهل سنعي درسا واحدا منها، فنبذل معشار جهدنا الذي بذلناه في ترويج أساطير المؤامرات، فنبذله في ترويج أهمية النظر بعين الواقع للمستقبل والعمل بجد له؟
- فالواقع أن شعب إيران يتطلع للحضارة ولبناء إيران لتكون إيران هي يابان الخليج.
- فنصف قرن من الشدة والحصار، أعدت شعبا إيرانيا معتمدا على نفسه، فهو اليوم مستعد للانطلاق اجتماعيا وعلميا وتنظيما. فهم وإن كانوا سيبدؤون من لا شيء، فما هم بأسوأ حالا مما بدأت به كوريا المدمرة وشعبها القروي المتخلف، لا علم ولا بنية تحتية، بل دمار شامل وجهل مسيطر، فإذا هم يسابقون العالم المتقدم في ثلاثين سنة.
- ومرت بنا نصف قرن التي مرت بهم، ونحن في رخاء وترف، أقمنا فيها مشاريع، سابقنا بها العالم كيفا وكما، ولكننا لم نعتمد في دراستها أو تقييمها أو بنائها على أنفسنا قط، حتى إننا لنعجز اليوم حتى عن تقييم صحة رأي الأجنبي أو عدمه ولو بمنطق بسيط.
- والواقع كذلك، أن ما يقارب نصف قرن من حصار إيران وإفقارها وتجويعها وهدم حضارتها واهانة شعبها في المطارات وفي الإعلام الأمريكي، قد ولد فيه وعاشه وتجرع ألمه جيل شباب ورجال ونساء إيران اليوم، وهم لا يُحمِلون أمريكا اللوم في ذلك، -فأوباما يراهن عليهم بأنهم سيصنعون حضارة عظيمة لإيران- بل هم يضعون اللوم على شياطينهم من الملالي وعلى الخليج والعرب.
- فإن كنا نحن اليوم بأموال النفط نملك السيارة الفاخرة يسوقها ويصونها ويصنعها الأجنبي، ثم نتباهى بها، فإنهم يملكون سيارة مقرقعة، يسوقونها ويصونونها ويصنعونها بأنفسهم، فلا ترف عندهم ليتباهوا بها، بل تجهد عقولهم وتعرق جباههم لتحسينها وصيانتها، حتى متى انفك عنهم الحصار، ورُفع عنهم جثم شعوذة شياطين الملالي، قامت معهم أمريكا وغيرها، لتسابق بهم كوريا أو اليابان أو ألمانيا. فما حبس أمريكا دماء أبنائها، فقعدت بها أحقادها فمنعتها عن إعانة أعدائها بعد هزيمتهم. فكيف ولا دم بينهم وبين الإيرانيين.
- الواقع هو أن جيل إيران اليوم قد امتلأت قلوبهم حنقا وحقدا علينا خاصة نحن السعوديين. فيا لله كم هو متشوق للنصر علينا حضاريا واقتصاديا، ليشمت شبابه بشبابنا ويُعير نساؤه نساءنا، فيشكر شيوخه شدة نصف قرن ونبكي نحن الشيوخ نعمة نصف قرن.
- فحينها، لا أماني إلا «كفى بك داء أن ترى الموت شافيا... وحسب المنايا أن يكن أمانيا»