د. حمزة السالم
كلما زادت استقلالية الإعلام كلما تمكن صُناع القرار في توجيهه الوجهة التي يريدون. فاستقلالية الإعلام تجعل المُستمع كطفل بين يدي والديه يوجهانه حيث يشاؤون فيتربى عقلاً وفكراً وروحاً على ما تشربه من اعتقادات والديه مؤمناً بصدق أحاديثهم وقصصهم عن السلف والجار والعدو والصديق.
والإعلام المستقل ما هو إلا مجرد كاميرا ينقل بالصورة والصوت ما يراه أمامه. فمتى أراد صانع القرار شيئا، أبرزه أمام الكاميرا، وكأنه تسرب منه أو عداء له. فتناقلته وسائل الإعلام المستقلة، ثم جاءت بالخبراء الذين لا يدرون عما يدور خلف أبواب اجتماعات واتفاقيات صناع القرار. فخرجوا غالبا بتحليلات وسيناريوهات، مُعطياتها ما يرونه أمامهم. وهذه استراتيجية قديمة، فقد كان عليه الصلاة والسلام، إذا أراد غزوة ورى بغيرها.
وقد يدفع صناع القرار أحيانا ببعض الخبراء المشهورين ليسبقوا تيار الأخبار الإعلامي، فيوجهونه للوجهة التي يريدون، ولو من أجل تفريق الآراء. فيتحدث الخبير أو يكتب الكاتب بتحليلات فيها كفشات لخبايا قصص مثيرة، مُعطياتها صحيحة ومنطق استنباط العلاقات بينها منضبط، إلا أن نتائجها خاطئة لغياب معطيات أخرى. وأحيانا يكون غياب هذه المعطيات ظاهراً ولكن دغدغة الكاتب أو الخبير للعواطف الباحثة عن الكشف عن الأسرار، يخدر العقول. كما فعل -على ما أعتقد- فريدمان الكاتب الأمريكي المشهور، في سبقه في توجيه الإعلام بعد قرار أوبك مباشرة، فاستخدم قرار عدم تخفيض السعودية إنتاج النفط، فتأول أنه ضد روسيا ليخدم إعلامياً وسياسياً إدارة أوباما في مجالات متعددة، وهو بذلك لا يضر السعودية بل قد يخدم سياستها في بعض الجوانب. وما زالت آثار مقاله لليوم تتجدد لتحقيق أهداف أخرى.
والإعلام المستقل هو الإعلام الذي يقود غيره من الإعلام الشبه مستقل. كما أنه قد يستخدم لقيادة الإعلام المُضلل والعدائي، فتكون أخباره المُهندسة هي شواهد الإعلام المُضلِل أو العدائي، فيعمل على تصوير صورة مضللة أعظم، تكون أحياناً هي مقصود صانع القرار الذي هندس صورة إعلامية مضللة عالمياً لتحقيق أهدافٍ له إستراتيجية.
وأنا أعتقد، أن ما كان يدور من نقم إعلامي أمريكي على المفاوضات الأمريكية الإيرانية، هو إعلام مُهندس بعناية. والصورة الإعلامية إذا خرجت وتشربتها الغالبية فلا يضرها بعد ذلك من يكشف عدم حقيقتها. فحينها، فهناك من لا يريد الاعتراف بخطأ تصوره وشربه للمقلب فيستمر في ترويج الإشاعات حتى يتعداه الزمن، وهناك من يصمت وكأنه لم يسمع بالأمر من قبل. فتنسى الجعجعة، ويفوز صانع القرار في منتهى الأمر.
ولذا فإني أعتقد أن جعجعة إسرائيل الإعلامية المضادة للاتفاقية والتصريحات الأمريكية المعارضة من أعضاء الكونجرس والنواب، ممن لا يدري من صغارهم، وممن يدري من كبارهم، بحقيقة الأمور ولكنه الذي لم يطلع عليه رسمياً، فلا يتحمل مسؤولية رسمية ولا أدبية ولا وطنية، أن أصبحت تصريحاته خاطئة. فهو يدرك أن خروج هذه التصريحات من المعارضة للتفاوض مع إيران، يخدم الاتفاقية ويعين على توجيهها للصالح الأمريكي، وقدوته في هذا رئيس الكيان الصهيوني، الذي يتباكى على اتفاقية يتمناها ويحلم بها. فهم يستغلون الوضع نفسياً سياسياً مستقبلية ضد إدارة أوباما، باستخدام ظاهر ما تنقله وسائل الإعلام، يساعده التكتم الرسمي على سير الاتفاقية وبعض بنودها.
فكف شر إيران نووياً الذي هو عماد الاتفاقية، أمر حتمي محسوم بين الجميع، وكونه يأتي بلا حرب هو أمر بَيّنٌ ربحه وخيره لكل الأطراف. فيستحيل أن تسلم المنطقة من آثار حرب إيرانية، سواء مباشرة بإدارك صواريخها للجوار ولحوق من حولها آثار دمار مصانعها النووية، وكذلك لن يسلم القريب ولا البعيد من الآثار غير المباشرة، الآنية منها والآجلة. ولكن قد يستطيع المفاوضون أكثر من ذلك إذا استطاعوا تضليل الإعلام المستقل.
ولهذا قد يلتبس على البعض في ظل غياب المعلومات وتوجه الإعلام بقوة مستقلة وتابعة ومضللة، في تصوير الأمر الواقع على الساحة كهزيمة خليجية عربية أمريكية إسرائلية. فالحقيقة التي أعتقدها أن صناعة هذا التصور كان بهندسة من صُناع القرار، وهو لخدمة سير المفاوضات وإعطاء قوة تفاوضية ضد إيران، وهذا أمر لا أشك أنه حدث، كما أني أعتقد أنه يلبي شروطاً إيرانية مقابل الموافقة على مطالب أمريكية تضمنها الاتفاق، فوق إنهاء الخطر النووي. مطالب قد لا ترى النور مطلقا ولكن قد نرى تحققها.
فالتفاوض هو فن مناورات ودهاء وذكاء وهي مهارات قد يمتلكها كثير، لكنهم لا يستفيدون منها في المفاوضات. فهم وإن كانوا يملكون أدوات التفاوض ومهارته ولكنهم لا يحسنون التفاوض، لأنهم لا يفهمون معنى التفاوض. فالتفاوض معناه تقديم تنازلات من كل جانب عن أمور يرغبها مقابل ضمان كسب أمور أخرى هي أهم عنده. فكل يتنازل عن مهم لديه، هو الأهم عند خصمه لكي يفوز بالمهم عند خصمه وهو الأهم عنده.
وضمان كسب الأهم أفضل من القمار بالكل، وخاصة في مصائر الأمم والشعوب. فمن الناس من تغلبه حميته أو كراهيته للخصم، فلا يقدم أي تنازلات صغيرة ولا كبيرة. فتراهم يدخلون قاعة التفاوض يريدون كل شيء من خصمهم أو منافسهم، ويريدون كذلك تخسيره كل شيء يريده، وإلا فلا صفقة هناك تعقد. ويلقون بكل ما لديهم على طاولة القمار. ونهاية المقامر الإفلاس.
ومن هنا جاء اعتقادي بأن الجعجعة الإعلامية ضد الاتفاق الإيراني الأمريكي، هي هندسة صُناع القرار. ويؤكد هذا تباكي رئيس الكيان الصهيوني على قبول التفاوض مع إيران. الذي لا يستطيع عاقل أن يأتي بحجة منطقية تبرر تباكيه بدلا من تضاحكه.
فقد سهل تصاعد النداءات الشعبية للشعوب المعادية لإيران والتصريحات المعارضة لزعمائهم، من الضغط على إيران لعدم المماطلة والتمطع في المفاوضات، وهذا لا شك فيه أنه حدث، بغض النظر عن صحة فرضية هندسة الجعجعة عمداً، أو بطلانها. وكذلك أعطت المفاوضين قوة تفاوضية ضد إيران ليكسروا شوكة العناد ويرهبوهم بتصوير أن الشعوب وعلى رأسهم الشعب الأمريكي راغب في إخضاع إيران بالحرب لا بالاتفاقيات.
ولا أستبعد أن شرط تنازل الملالي عن السلطة خلال عقد من الزمان أو نحوه هو من بنود الاتفاقية السرية، والمشروطة بظهور الملالي بمظهر المنتصر، الذي يلزم منه تصوير هذا الأمر إعلامياً منذ البداية ثم صيانته بعد ذلك تماشياً مع الأحداث. وبند التنازل عن السلطة، هو نفس البند في الاتفاقية الأمريكية اليابانية بعد الحرب العالمية (وهذا ما أعتقده بقراءة الأحداث). فقد ظل سراً ولكن أحداث التاريخ، باحت به حسب ما أراه. وللحديث بقية السبت، لآتي ببقية تبريرات ما كتبته هنا وأحاديث أخرى متعلقة به.