سمر المقرن
أجمل ما في الصداقة أنها لا تخضع لظروف سياسية، ولا حالة اقتصادية، ولا تغيّرات اجتماعية. الصداقة هي مفهوم إنساني يخرج من أعماق النفس ويرتبط بحالة أخلاقية بين طرفين لا تتزعزع تحت وطأة أي ظرف من الظروف.
كثير منّا، يشكو من تغيّر صديق بسبب ظروف ما قد تجعل أحدهم يتغيّر على الآخر، وهنا باعتقادي أن العلاقة التي ربطت بين هذين الطرفين كانت علاقة وهمية لا يمكن أن توضع في خانة الصداقة الحقيقية.
الصداقة تنضج مع عمر الإنسان وطريقة تفكيره وأسلوبه في التعامل مع الآخرين، هذا البناء يكتمل مع الإيمان بأنها علاقة قائمة على التكامل والشعور بالحاجة النفسية لخلق توازن اجتماعي عند البشر، وكلما كان النضج والابتعاد عن «التملّك» في هذه العلاقة الأخلاقية متنت روابطها ورست جذورها في أعماق النفس، وأصبحت أكثر تجاوزًا لسفاسف الأمور وصغائرها.
وقد شغلت فكرة علاقة الصداقة الفلاسفة والمفكرين من مرحلة ما قبل الميلاد، إلى مدارس العلوم النفسية، ولعلي أتفق مع -بعض- أفكار سيجموند فرويد، في تفسير هذه العلاقة بين مساحتي الشعور واللا شعور، والذي في نظريته لم يفرّق بين علاقتي الصداقة والحب، كونهما قادرتين على منح الإنسان صورة إيجابية عن ذاته، تمنحه شحنة عاطفية تجعله يعيش حالة من الامتلاء والنشوة التي تزيد من ثقته بنفسه وتعزّز التوازن النفسي وارتباطه بالمجتمع.
أعجبني تعبير «أرسطو» عند تقسيمه لأنواع الصداقة، في وصفه لأفضل وأرقى أنواع الصداقات بصداقة الفضيلة، فهي قائمة في نظره على أن الخير لا يزول، لذا فإن صداقة الفضيلة هي الشكل النموذجي للعلاقة بين الطرفين، وليس بإمكان أي شخص أن يصل إلى هذه المرحلة من الصداقة.
أتصور أن الصداقة هي من أرقى العلاقات الإنسانية إذا تجردت من النوازع البشرية «الشريرة» ولا يمكن لأي إنسان أو حتى حيوان أن يعيش بدونها كونها احتياج أساسي للروح والعقل، وللننظر إلى الحيوانات مثلاً، فأغلب الحيوانات السعيدة هي التي تعيش بين أصدقائها، وتسير معهم، وتنمو بينهم، بل وتموت وسطهم ويحزن على موتهم أقرانهم. ولنتذكر سويًا تلك القصة الشهيرة لأحد الدببة في القطب الجنوبي بعد موت صديقه بدأ يقوم بتصرفات غريبة في حديقة الحيوان تدل على حالة الحزن والكآبة جراء هذا الفراق. أما الحيوانات التي تعيش منفردة كبعض أنواع القردة والنمور وغيرها فهي رغم أنها تتزاوج وتتكاثر إلا أنها حيوانات كئيبة بسبب عدم وجود صداقات لديها.
أظن أن الصداقة التي تصل إلى مرحلة الفضيلة كما هو في تعبير «أرسطو» لم يصل لها سوى أناس محظوظين في حياتهم يشعرون بالسعادة الحقيقية والصفاء الداخلي، وفي رأيي الشخصي أنه كلما تمكن الشخص من تقنين علاقاته ولديه الفراسة في معرفة أصناف البشر فهو بإمكانه أن يصل إلى مراحل رفيعة في علاقاته الإنسانية التي تؤدي إلى الصداقة الكاملة التي تبقى وتستمر مدى الحياة.