فاطمة العتيبي
كنت الصغيرة بضفيرتين
وكانت حصة التاريخ عظيمة
والوطن الأعظم
يسري من لسان المعلمة المتهلل وجهها بالبشر كأنه العسل المصفى تضعه في مصل الانتماء والعشق وتسقينا إياه جرعة جرعة .
فجأة وقع الاختيار عليّ لأمثل دور سعود الفيصل في مشهد تمثيلي عن الهيكل التنظيمي للدولة السعودية في عهد الملك خالد يرحمه الله.
أندم اليوم كثيراً أن فاتني أن ألتقي بصاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وأتحدث معه وأقول له إن قيامي بدور صغير في مشهد تمثيلي في مدرسة صغيرة في مدينة صغيرة ، كان هو أحد العوامل الهامة التي جعلتني لاحقاً أختلف عن صويحبات الصف والحي، فلم أهتم لأهل الطرب أو التمثيل كان اهتمامي وولعي هو السياسة والثقافة، وظلت شخصية سعود الفيصل وشماً على كف وطني الذي أحببته، كما لو كنت أحب أبي وأمي وقبيلتي وسائر أهل مدينتي الجميلة.
من أجل ذلك أعتني اليوم بتطوير المدارس والاهتمام بالأنشطة وتعزيز الانتماء، فقد حوّل مشهد تمثيلي خجلي إلى شجاعة وجرأة، وهدوئي وسكوني إلى ضجيج لا يهدأ بحثاً عن الأفضل.
لم تدهشني أبداً عبارة (أنتِ دبلوماسية) التي صرت أسمعها يومياً من كل من أتعامل معه، لأنني أعرف سببها، إنه الاقتداء والنموذج الذي ينزرع داخلك دون أن تعلم، تتمثله وتكوّنه في عقل اليقظة والوعي، تنزع إليه وتستجير بصفاته في أكثر اللحظات صفاء في داخلك.
كان نائياً مثل نجم عظيم، كان قريباً مثل أب حميم ، كان حلماً مغرقاً في الغموض والتألق والجاذبية لكل السعوديين، جيل كامل كان يراه النموذج والذكاء والسياسة والحنكة والصدق والضمير الحي.
حزنت مثلما حزن العالم كله كنا لا نبعد عنه إلا ستين كيلاً فقط كان في لوس انجلوس وكنا في إرفاين ، غادرنا في يوم واحد نحو السعودية، عدنا لنقضي العيد في أرجاء الوطن وعاد النجم النائي في ألقه كي يودع الوطن ، كي يأوي إلى ثرى السكون والخلود!
كانت لحظات موجعة ومغرقة في الفانتازيا، وكأنّ المطار مغارة سحرية خارجة عن حدود الزمن.
بكيت وبكى السعوديون مثلي ، وبكت أرجاء الوطن وردهات المحافل والمنظمات ، بكت الدنيا التي تحب طيور السلام وتعشق الذكاء والعقول الفارهة الخارجة من كوة الظلام إلى مدائن الضوء!
بكت الصغيرة ذات الضفيرتين ، وحزنت إنها لم تزر سعود الفيصل وهو في أحد مستشفيات لوس أنجلوس القريبة!
بكت المراهقة التي قصت ضفائرها يوماَ تحلم بأن تقف تلقي خطاباً باسم بلادها في محافل العالم.
بكت الأم المكلومة التي فقدت ابنتها وقد آذاها نفسياً أنها لم تجد تعليماً مناسباً لها مع أنها دفعت مئات الألوف.
بكت المرأة المواطنة التي تحلم لوطنها بكل ما هو جميل ومن أجله تنحت في الصخر وتركب الخطر، ومن أجل السلام تواجه قوى الظلام بقلم صدق وفكر نقي .
بكت وبكى السعوديون حين رأوا دموع تركي الفيصل ، وحين سمعوا أنين قصيد خالد الفيصل:
أرحل عداك اللوم وأشهر وغادر
مالك مكان إلا على عرش الأذكار
وحين قرأوا ما كتبه عزام الدخيل بأنّ سعود الفيصل أوصاه خيراً في آخر لقاء بتلاميذ الاحتياجات الخاصة.
سيظل يبكي السعوديون كلما شرقت عليهم الشمس وسعود الفيصل تحت الثرى ، لا يشاركهم ضوء ونور وطنهم، لكنه أبد الدهر باق كنقش في باطن قلوبهم ووشم على ظاهر كف الوطن.