إبراهيم عبدالله العمار
مشهد من الحياة الغربية: ذات مساء في عطلة نهاية الأسبوع يُبصِر رجلٌ فتاةً في «البار». إنها جالسة وحدها أمام منضدة الساقي. يقرر أن يتقدم ليتعرف عليها ويعرِّفها بنفسه، لعلها تكون من نصيبه. يُقدِم وهو متردد قلق، يخشى أن تَرُدَّه.. الخوف من الرفض. يسلّم عليها، تلتفت له، «كيف حالكِ؟»، «أنا بخير، شكراً»، «كأس الخمر القادمة عليّ!»، توافق الفتاة، «أيها الساقي، قدحان من فضلك»، يحتسيان الشراب ثم يبدآن في التعارف. لقد تشجع الرجل الآن وزال قلقه.
هذا الموقف يحصل كل يوم عند الغربيين، ليس فقط عندما يريد رجل التعرف على امرأة بل حتى عندما يتسامر الرجال فيما بينهم، فمن تأثير الخمر تخفيف القلق والتوتر فيتشجع الغربي لفعل أشياء يهابها عادةً كتكوين صداقات جديدة أو نيل إعجاب الجنس الآخر.
في أمريكا في القرن الثامن عشر الميلادي دعا بعض القادة الدينيين الناس أن يخففوا من شرب الخمر عندما كثرت القبائح والمنكرات التي تسببها، ونادت المنظمات الاجتماعية بذلك ووزعت منشورات أضرار الخمر، ووافقتهم الحكومة الأمريكية على ذلك ففرضت غرامات على السكارى وعلى من يبيع الخمر بلا ترخيص، ولم يكتفوا بهذا بل وضعوا القانون الشهير الذي يمنع الخمر تماماً في أمريكا عام 1920م، فأغلقوا الحانات والبارات وسجنوا وغرّموا الذين يخالفون القانون، لكن الخمر صارت جزءاً أساسياً من حياة الغربيين والأمريكان فلم يصبروا عنها، وخالفوا القانون وتحدّوه مراراً وتكراراً حتى اضطرت الحكومة إلى إلغاء القانون عام 1933م.
تأثير الكحول النفسي على العلاقات الاجتماعية عظيم في الغرب، بل الكثير من العلاقات (منها الزواج!) لا تنشأ إلا بأن يشرب الاثنان الخمر ليُهدّئ كلاهما أعصابه ثم يتعرفان على بعضهما بعد زوال الحاجز النفسي، حتى إن من أسماء الخمر عندهم: «الشجاعة السائلة» .. سائلٌ تشربه .. فتتشجّع.
لما تأملتُ هذا ظهرت لي حكمة عظيمة من حِكَم الله سبحانه في تحريم الخمر ذلك التحريم الشديد القاطع: تقوية النفسية المسلمة. إن المسلم - عكس من يحتاجون الكحول باستمرار - قوي النفس، يُقدِم على الأمور التي تثير التوتر والقلق ويفعلها رغم ذلك. يتصبّر، يتجلّد، لا يحتاج إلى الخمر ولا المخدرات ليُزيل قلقه، بل يواجه كل هذه الأمور اعتماداً على نفسه لا على القنينة. رأيتُ ضعف الغربي الذي لا يستطيع أن يواجه الناس ويتواصل معهم إلا إذا خدّر أعصابه وهدّأ نفسه بتلك المادة المُنتنة، وإن أظهرَتْه بمظهر الأحمق المعتوه.
رأيت ذات مرة مقطعاً لزواج أمريكان، والعريس من شدة توتره من يوم زواجه شرب الخمر ليَهدأ فأكثر منها حتى سكر، ورأيته أمام الناس يرقص كالمجانين ويتقدم لزوجته فيرقص أمامها ثم يسقط عليها وعلى الأرض ويفعل من الأشياء المعتوهة السمجة ما يثير الاحتقار حتى بكت العروس أمام الناس والتف أهلها حولها يعزونها على هذا المشهد المخزي.
وعلى الجانب الآخر قرأت كلام الغربيين الذين توقفوا عن شرب الخمر تماماً.. حرّموها على أنفسهم حتى الكميات الضئيلة، فمنهم من يقول إنه يشعر كأنه ولد من جديد، ومَن يقول إنه أفضل يوم في تاريخه، ومن يخبر أن حياته صارت تتحسن باستمرار، منهم مشاهير مثل الممثلين أنتوني هوبكنز وبن أفليك ورائد الفضاء باز ألدرين والتاجر وارين بافيت ومغني الروك جيمس هتفيلد والكثير غيرهم.
{وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، والحمد لله أولاً وأخيراً على شرائعه التي تتجلّى حِكَمُها باستمرار.