د. خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
تأتي هذه الجريمة «قتل العقيد راشد الصفيان» -رحمه الله- من قبل ابن أخته لتصرخ وتصيح فينا جميعاً: النار وصلت إلى ثيابكم فاستيقظوا، نعم يمكن أن نقول الآن: إن نار الغلو والتطرف تحاصرنا بالفعل،
وما لم نهب جميعاً -كمثقفين وطلاب علم ودعاة ومشايخ ومفكرين وإعلاميين- إلى تفتيت خلفيات هذا التطرف ومكوناته بعيداً عن مكاسبنا الشخصية أو توظيف هذا الملف لصالح معاركنا الفكرية والمزايدة على خصومنا فيه، وإنما من أجل وطن يستحق أن نبذل كل شيء من أجله، ما لم نفعل ذلك فإن المستقبل الفكري لشباب الوطن لا يبشر بخير! غير أن المؤلم حقاً أنه على الرغم من أن عدونا تعرى تماماً وخلع كل أقنعته التي يستر بها وجهه القبيح ومع ذلك فلم يتغير موقفنا درجة تجاه هذه المكونات الفكرية التي يعتمد عليه هذا العدو الشرس في اصطياد ضحاياه من الشباب، ولم تحدث مراجعات حقيقية لهذه المكونات.. فالتوصيف هو ذاته التوصيف الذي كنا نجتره قبل عشرين سنة: «شاب مغرر به يقتل رجل أمن» هكذا نتصور هذه القضية الخطيرة بهذه الرؤية الموغلة في السذاجة، لكن نغفل أو نتغافل أن إقدام شاب في هذا السن على جريمة بهذا الشكل يعني -بكل وضوح- أن ثمة فكراً متطرفاً يتنامى في الظل، وعلى حين غفلة من الجميع، هناك موقد صغير يغلي تحت الشاب لكننا -بكل أسف- لا نرى هذا الموقد إلا بعدما تتطاير الأشلاء في الهواء بعد كل عملية إرهابية!.. حينها نرى الدخان والرماد فنعرف أن هذا الشاب كان يُصهر على الموقد ونحن لا نعلم! وأعتقد أننا سنكرر نفس التسطيح مرة أخرى حينما نقول إن هذا الشاب كان معتدلاً ولكنه قبل شهور تم اختطافه والتأثير عليه! هذه أغلوطة كبرى يتم ترويجها عن قصد أو غير قصد حتى نحمي الثقافة المؤسسة لهذا التطرف، إن التحول والتغير في الفكر لا يمكن أن يصل لهذه الدرجة مالم تكن هناك خلفية فكرية تؤسس لهذا التحول وتسرع حصوله، وبدون هذه الثقافة لن ينجح هذا الفكر في التغرير والتأثير، إن الحقيقة التي نتعامى عن رؤيتها ونشيح بوجوهنا عنها هي أن هذه الخلفية أو الأرضية نساهم -بكل أسف- في تأسيسها، شعرنا أو لم نشعر، ومالم يتم إصلاح التدين وتنقيته بالعودة إلى مفهومه الشرعي الصحيح فإننا سنتوقع كل شيء! وحتى لا أكون راجماً بالقول بلا بينة سأوضح بهذا المثال الحي: في حساب هذا الشاب الغادر المغدور -في التويتر- غّرد مرة تحت هاشتاق كاذب: «الشرطة تقتل مواطناً بالقطيف» فقال -باسمه الصريح- وذلك لما كان في مرحلة «الاعتدال»!-: «سمعت أن المقتول رافضي، فإن كان ذلك صحيحاً، فاللهم زد وبارك، وأبشر قاتله بأنه? يجتمع كافر وقاتله في النار»! إنني متأكد تماماً أن هذه التغريدة لو قرأهالكثير منا لن تثير لديه الكثير من الاهتمام، وقليل جداً من يقول: شاب متحمس جاهل، ثم يمضي في سبيله! وأقل منه من يرى أن هذه التغريدة هي تعبير واضح عن استعداد صريح للقتل، فهي تعني -بصراحة- أن قتل المواطن الشيعي حلال بل وقربة إلى الله، وأنه لو تمكن من ذلك لفعل ذلك وأكثر منه. هذا هو موقفه من المواطن الشيعي في مرحلة الاعتدال، فما هو موقفه من المواطن السني؟.. حتى نتبين ذلك لننتقل إلى تغريدة أخرى في «الانستقرام» توضّح الموقف، في واحدة منها وضع صورة د. أحمد الغامدي -الذي كان قد طرح رأيه في وسائل الإعلام حول جواز كشف وجه المرأة- ثم كتب تحتها السؤال التالي: «هل هذا شيخ أو ليبرالي؟.. ثم شرع في الدعاء عليه بأقسى أنواع العذاب، وذلك بأن يشل الله أركانه ويخرس لسانه...» يا ترى ما الذي فعله الغامدي حتى يتخذ منه هذا الموقف المتشنج؟.. غاية ما فعل أنه اختار قولاً فقهياً يخالف ما عليه فتوى البلد! وهنا أطرح سؤالاً مهماً: هل استقى هذا الشاب موقفه العنيف من قبل نفسه أو استلهمه من حزمة ضخمة من المواقف الموغلة في التطرف تجاه رأي د. الغامدي كالتشكيك والتخوين والرمي بالدياثه؟.. أعتقد أن من يتابع تلك الضجة في وقتها سيختار الاحتمال الثاني بلا تردد، وسيقطع أن تلك المواقف العازبة عن الفقه الصحيح ساهمت في صناعة التطرف -وأنا هنا لست في معرض الدفاع عن د. الغامدي فهو حي يرزق ويستطيع الدفاع عن نفسه، وأخالفه الرأي في ذلك، لكن أحاول أن أقرأ الموقف قراءة فكرية حتى نتلمس الخيوط الغائبة التي تنظم عقد التطرف في البلد -.
وبعد؛ فأردت مما سبق -من عرض هذين الموقفين لهذا الشاب- أن أوضح للقارئ الكريم أن لدينا مشكلة في الثقافة الخلفية التي تؤسس للغلو والتطرف، لدينا مشكلة من جهتين:
الجهة الأولى: في موقفنا من الآخر المختلف عنا، ثمة موقف موغل في التشنج، لا بد من أنسنة هذا الموقف، وتربية النشء على قبول الآخر، وأن تعايشنا مع الآخرين لا يعني أن نصحح عقيدتهم، لكن نتعايش معهم في ظل المشتركات الوطنية والإنسانية ونبرهم ونقسط إليهم كما هو تعبير القرآن مع أهل الكتاب والمشركين، والمشكلة أن الحديث عن موقفنا من الآخر مليء بالتنظيرات المثالية وهو يكاد أن يكون مملاً ومكروراً ومثيراً للغثيان!، لكنه عند التطبيق نحن -حقيقة- مازلنا في المربع الأول! وقد كنت في رمضان استمع إلى أحد «النخب» في قناة مشهورة وهو يصرخ: «مستحيل أن أتعايش مع هذه الطائفة، كيف أتعايش معهم وهم يسبون الصحابة؟».. ماذا يعني ذلك؟.. ليس هناك بديلاً عن التعايش إلا الاحتراب! ثم ألم يتعايش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود الذين جعلوا عزيراً ابن الله؟.. ومع النصارى الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة؟ تعالى الله عن قولهم جميعاً.. ثم ماذا يعني تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود في حاجاته اليومية ومعيشته، من مثل قول عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعاماً بنسيئة ورهنه درعه»؟. ماذا يعني ذلك؟.. لا يعني سوى التعايش والعيش في ظل المشتركات البشرية، وليس هناك بديل عن هذا إلا الاحتراب والتقاتل.
لابد من تعظيم قيمة الإنسان الآخر وحياته عند النشء، أي إنسان، دون النظر إلى دينه أو مذهبه، وأن الاعتداء عليه جريمة من أعظم الجرائم، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على حرمة النفس الإنسانية، وينمي فيهم الحس الإنساني النبيل، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه سهل بن حنيف وقيس بن سعد -كما في صحيح البخاري- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرت به جنازة فقام لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً؟! يعني أن النفس محترمة ومعظمة في الشريعة دون النظر إلى اعتقاد صاحبها. وفي لفتة غاية في الجمال يعلق الإمام ابن دقيق العيد على قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء « يقول رحمه الله: «هذا تعظيم لأمر الدماء، فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد، ولا ينبغي بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه». ولاحظ معي قوله «وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد» إذ هي جملة عظيمة محملة بحمولة ضخمة من الدلالات المهمة، إن هذا البعد الإنساني -الذي أشار إليه الإمام ابن دقيق العيد- هو البعد الغائب في تشكيل عقول الناشئة، فلا بد في هذه المرحلة الصعبة من إشاعة هذا الفقه الإنساني، وتعميق مقاصده ومعانيه لدى الناشئة.
الجهة الثانية: في خطابنا الفقهي؛ إن المملكة العربية السعودية بحكم كونها قبلة العالم الإسلامي، وهي التي يجب أن تكون خيمة المذاهب السنية في العالم، لأنها البلد الوحيد الذي استقبل الإسلام بصفائه الأول، واستقبل الوحي غضا طرياً كما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهل يتصور أحد أنه يضيق خطابنا الفقهي بالأقوال الفقهية الأخرى من المدارس الفقهية السنية؟ هذا هو الواقع بكل أسف، أقول ذلك؛ لأن هذا متعلق بما نحن بصدده، فلدي قناعة مطمئن إليها غاية الاطمئنان، وقد اختبرتها مرات كثيرة، وهي أن الانسداد الفكري فرع عن الانسداد الفقهي ولا شك، فما لم نفتح فقهياً على المذاهب الأخرى فنحن قطعاً سنتشدد فكرياً. إن وجود هذا الاختلاف الكثير في تراثنا الإسلامي ليس مضراً بل هو مفيد جداً في تشكيل عقولنا، وله حكمة عظيمة، إنه الضمانة التامة -بإذن الله- من الانحراف والتشدد، ولهذا لما ألف إسحاق الأنباري (كتاب الاختلاف) قال له الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: سمه (كتاب السعة) « لأن السعة هي نتيجة الاختلاف، بعكس خطابنا الفقهي الذي حول الاختلاف إلى وسيلة وقنطرة للتشدد ! وفي نص جميل للإمام ابن تيمية رحمه الله يقول - متحدثاً عن ضرورة ألا يكون الاختلاف مدعاة للقطيعة -: (وأما اختلاف الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مُسلمانِ في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبوبكر وعمر سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير) إذن: الاختلاف في فروع الدين أمره يسير مهما ضخمه العقل الاجتماعي! وإلغاء هذا الخلاف أو تصوير القائلين به على أنهم شذاذ رأي، وأصحاب هوى، هو افتئات على الشريعة واستدراك عليها.
خلاصة القول إن ما فعلناه نحن هو أن ثبتنا كثيراً من المتغيرات، حتى ضاقت مساحة الاختلاف، والنتيجة الطبيعية لذلك هي المزيد من التشدد، فكلما زاد العصر انفتاحاً فقهياً ازداد شبابنا تشدداً فكرياً؛ لأن دائرة الثوابت توسعت عندهم والتهمت كل شيء، فصارت مساحتهم في الحركة ضيقة جداً أو معدومة!!.