د. خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
كان هذا سؤالاً من شاب يعيش ما يمكن أن نسميه: حيرة المنهج، فهو يسمع كثيراً عن ضلال جماعات العنف وفساد اعتقادهم، لكنه لا يدري كيف يفسر هذه المقاطع التي تتدفق - كل يوم - بغزارة - إلى جواله:
هذا مقطع لشاب يهذي بالجنة وهو في لحظات الاحتضار، وآخر يحكي -بالتفصيل- ما يرى من نعيم الجنة وهو يزفر نفسه الأخير، وشاب يفوح الطيب منه وهو ميت فيعطر المكان! ومثل هذه الأحوال، فيسأل الشاب وهو في غاية الحيرة: ألا تكفيكم هذه العلامات للدلالة على صحة منهج هذه الجماعات وسلامة معتقداتهم؟ وهو سؤال مهم جداً، خاصة في هذه المرحلة الصعبة. ويمكن تفكيك هذا الإشكال بالقول ابتداء: إن أصل ضلال البشر يعود إلى خلل في منهج الاستمداد، فإذا كان الإنسان يستمد الحق من غير الوحيين «الكتاب والسنة» فإنه لابد أن يزل، حتى لو اعتقد أن هذه الوسائط التي يستمد منها الحق هي تستمد من الكتاب والسنة، فما لم يكن المعيار الضابط لديه هو موافقة العمل للنص الشرعي ابتداءً وانتهاءً؛ فإن الخلل في الاستمداد لازم له ولا شك، وهذه تكاد أن تكون قضية بدهية لا يحتاج لإدراكها كبير عناء، لكن أكثر ما يكون الإشكال وعورة حينما يكون موضع الاقتداء ومحل الاتباع من يرفع شعار حماية الشريعة وينادي بتحكيمها، فهنا يكون الزلل والخلل كبير، فقاعدة الاستمداد لن تعمل - حينئذ- عملها بالشكل الصحيح، أو لن تعمل بالقدر نفسه من الفاعلية حينما تكون أمام مبطل ظاهر البطلان؛ لأنه والحالة هذه سيحضر التقليد المحظور، ويتجاوز الشاب عن علامات كثيرة يعرف بها الحق عادة باعتبار أن هذا المبطل يرفع صوته بالشريعة ومظنون به الحق، أو أن له تضحيات كبيرة في الجهاد يعحز عنها القاعدون، فتضعف حينئذ لديه القدرة على التركيز والاستبصار، وهنا ثلاث مقدمات مهمة تصلح أن تكون تأصيلاً لما تقدم ذكره، ومن كانت واحدة من هذه القواعد موضع شك لديه فلن يصل إلى مبتغاه بل سيبقى في الحيرة والشتات:
المقدمة الأولى: أن هناك قاعدة مشهورة، وهي محل اتفاق عند كافة المحققين من أهل للعلم، ويذكرونها عادة في مقدمات مسائل الخلاف، وهي أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وهي وإن كانت قاعدة بدهية، لكن المقصد من إيرادها ملمح آخر، وهو أنه من لازم هذه القاعدة أن الحق متقدم على الرجال، فهم محتاجون إليه وليس هو بمحتاج إليهم، إذ ليس من شرط كونه حقاً أن يكون له رجال يمثلونه، ولكن من شرط كون الرجال أرباب حق أن يتمثلوا هذا الحق ولا يبدلونه.
المقدمة الثانية: أن كثرة العبادة والتنسك والتبتل ليست أمارة يستدل بها على معرفة الحق، بل جعل الشارع كثرتها كثرة تتجاوز الاعتدال أمارة على الباطل وعلامة على الانحراف عن المنهج، كما وصف صلى الله عليه وسلم الخوارج بكثرة الصلاة والصيام وقراءة القرآن.
المقدمة الثالثة: أن أصل الإتباع يحب أن يكون للوحي المطهر، ولا يحوز التقليد في أصول الدين، ولم يرخص في التقليد إلا في فروع الدين، وهو مخصوص أيضاً في حالة الاضطرار والعجز عن استخراج الحكم الشرعي. ويترتب على هذه القاعدة أن استمداد صحة المنهج بالتقليد لا يجوز أيضاً، ولازم هذا أنه ليس لأحد من الناس أن يختصر الحق في جماعة أو شخص، ولهذا كان من الفقه الدقيق للسلف نهيهم عن التأسي بالأحياء في صحة المنهج، لأن الحي عرضة للتحول والتراجع، وأمروا بالتأسي بمنهج الأموات ليس تعظيماً لهم؛ وإنما تعظيماً للحق الذي حملوه ولم يبدلوه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مقلداً لا محالة فليقلد الميت، ويترك الحي فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة» فإذا كانت هذه المقدمات مستقرة في عقل المسلم ووعيه فإن الكثير من الإشكالات ستزول، أو لن تظهر ابتداء، وفي المقابل فإنه بقدر خفائها أو عدم فهمها ترد الإشكالات وتتوالد ويحصل الاضطراب. وعلى هذا فإن الحق لا يعرف بكونه حق إلا بعلامة واحدة ليس لها مثيل، وهي الاستقامة التامة على هدي الكتاب والسنة، وهي علامة لازمة لا يجوز أن تتخلف، وكل علامة من دونها فهي علامة باطلة، مهما كانت، ولو كانت هناك علامة تصحح العمل والمنهج دون علامة الاستقامة على الكتاب والسنة لصح ذلك للدجال الأكبر الذي - صح الخبر بأنه- كان يقول للسماء: أمطري فتمطر؛ وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه؛ ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم، ومع هذا فهو كذاب، بل حتى بلغ من دجله أن صار الدجال اسماً له! ولهذا كان من فقه السلف النهي الشديد بعدم الاستجابة لكل علامة إذا فسد المنهج، والتعامل معها على أنها تسويل من الشيطان، قال الشافعي: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة»، وقال الليث: «لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به». ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء؛ فلا تحكمن عليه حتى ترى عمله، فإن كان موافقاً للكتاب والسنة؛ فإنما ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإلا فهو استدراج من الشيطان»، ولما ناظر مجموعة من فرقة الصوفية البطائحية وأرادوا - ليثبتوا باطلهم - أن يقتحموا النار ولا يمسهم من حرها بشيء، تحداه- رحمه الله- على فعل ذلك وما فعلوا، فقال لهم شيخ الإسلام بعد ذلك: «ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء؛ ومشيتم على الماء؛ ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع». وقال الصنعاني - عند حديثه عن الأحوال الغريبة التي تعرض لبعض أهل الضلال -: «والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال، والمعيار اتِّباع الكتاب والسنة ومخالفتهما».
إن هذه النصوص وغيرها تؤكد قضية مهمة، وهي ألا يستمد الحق من أمر سواه، وأنه قبل النظر في صحة هذه الكرامة علينا أن ننظر في حال صاحبها، وسلامة منهجه واعتقاده، فإن كان مستقيماً على المنهج الصحيح موافقاً بتصرفاته هدي الكتاب والسنة فهذه كرامة من الله له يخص بها من يشاء من عباده، وإن كان حاله على خلاف ما جاء في الكتاب والسنة فهي دجل وتسويل من الشيطان، ولا تزيد منهجه إلا فساداً وضلالاً، ومع ذلك فإن أصل إثبات الكرامة أمر جليل ودقيق، والعادة أن المؤمن يموت على الحال التي يموت عليها سائر المسلمين، وقد مات الصحابة الأخيار في المعارك والحروب الطاهرة وما نقل الإخباريون عنهم أنهم كانوا يتبسمون أو يهتفون بالجنة أو يشمون روحها، وما من أحد من المسلمين من يشك بصحة إيمان ذلك الجيل الطاهر وسلامة منهجهم، والخوارق حالات نادرة تأتي على خلاف الأصل والعادة، لا يصحح وجودها المنهج الباطل، ولا يفسد غيابها المنهج الحق، غير أنه إذا فسد المنهج وجب تأويل ما يظهر منها، فلو تبسم الشاب مثلاً وهو منتم لهذه الجماعات البدعية التي تتخوض في دماء المسلمين وتستبيح أعراضهم وأديانهم فما يغني عنه تبسمه من الحق شيئاً، وما كان هذا التبسم إلا تسويلاً واستدراجاً من الشيطان، ولعل القارئ الكريم يرى حرص واستماتة هذه الجماعات البدعية بنشر هذه المقاطع في كل اتجاه؛ لأنه يختصر عليها الكثير من الجدل حول صحة منهجها، فابتسامة شاب عند الاحتضار تغني عن ألف كتاب مليء بالبراهين والحجج. وأختم بهذا الموقف العظيم للإمام أبي العالية الرياحي حيث جاء إليه بعض الناس وقالوا: يا إمام هذا الرجل - ويعنون مرداس بن حدير - وكان أحد رؤوس الخوارج في عصره- رأينا علامة على صحة ما يقول، وهي أنه دعا الله مرة هو وأصحابه بأن يريهم آية على صحة ما هم فيه فارتج عليهم السقف، وقيل فارتفع السقف! فقال أبو العالية - باطمئنان تام-: «كاد الخسف أن يقع بهم فأدركتهم رحمة الله»! هكذا هو اليقين المطلق بصحة المنهج لا يزعزعه أي شيء، لا سقف يطير ولا ثغر يبتسم.