د. خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
«مضمار أنيق للمشي يوفر على خزينة الدولة الملايين من الريالات التي تصرف على الأدوية والعقاقير»، هذا بالضبط ما يجب عمله في حل إشكالية الغلو والتطرف. لا أحد يتجاهل هذه الجهود الضخمة التي تبذل لمعالجة ظاهرة الغلو والتطرف لدى الشاب...
...خاصة بعد مرحلة استفحال المرض وتجذره في عقل الشاب ووعيه، وهي جهود مهمة وضرورية جداً لكنها في ذات الوقت مكلفة وتستنزف الدولة والمجتمع الكثير من الجهد والمال، غير أن القليل من هذه الجهود من يصرف على الجانب الوقائي، وبالتحديد على مرحلة ما قبل التشكيل الفكري، فالشاب يولد على الفطرة المعتدلة لكنه في مرحلة «ما» يتم تشويه وعيه وتدينه الفطري، وإذا نجحنا في اصطياد هذه اللحظة المهمة ومراقبة هذا المنعطف فسنختصر الكثير من التعب والجهد، وفي تقديري أن هذا من أهم ما يجب الالتفات إليه وصرف الجهود نحوه، كما أنه في نفس الوقت لا يكلف الدولة الكثير من الجهد والمال، لأنه دور مجتمعي بحت، فغاية ما يحتاج إليه الشاب هو تأسيس ثقافة صحيحة ومعتدلة تعينه على الانسجام مع الحياة، ويعرف معها كيف يتعاطى -بشكل صحيح- مع المتغيرات والأزمات، وتكون بديلاً عن ثقافة مليئة بالتوجس والانتظار والترقب، وقبل أن أسرد هذه الخطوات أشير هنا إلى أن من أبرز الإشكالات المجتمعية التي مازلنا نقع فيها حتى اللحظة أننا أوكلنا مهمة حراسة الأمن ومكافحة الغلو والتطرف إلى الأجهزة الأمنية حتى باتت هذه المفردات «الغلو- الأمن» مشبعة بالتوجس والحس الأمني، وهذا يعني أنه سيكون بينها وبين الشاب حالة كبيرة من القطيعة والنفور، على الرغم بأن هذه المصطلحات شرعية وحاضرة في صميم الخطاب الشرعي، ويجب أن تكون كذلك حاضرة في العقل الاجتماعي للمجتمع، وما يجب فعله في هذه المرحلة هو أنسنة هذه المصطلحات وتحويلها إلى ثقافة إنسانية يتداولها كل أفراد المجتمع.
إن الصورة التي نراها لشاب صغير يحمل الكلاش وهو ينشد هاتفا للموت، أو لشاب آخر: متلثم ويده على الزناد، أو لآخر متقطع الأشلاء في علمية انتحارية، كل هذه اللقطات والصور قطعا ليست واحدة منها هي الصورة الوحيدة في مراحل مشروع تصميم «شاب إرهابي»!، بل هي اللقطة الأخيرة لآخر خطوة من خطوات التصميم، وأما الأولى فهي -بكل أسف- يتم تصميمها كلها في مجتمعنا بقصد أو بدون قصد!
وسأشير هنا إلى أهم هذه الخطوات:
الخطوة الأولى: طلاء الوطن باللون الأسود: أو يمكن أن نقول بعبارة أخرى: تسويد الواقع وتلويثه في عقل الشاب: وهذه الخطوة مهمة جداً، فلا يمكن اصطياد شاب يتفاءل بالواقع ويبتسم للحياة، كما لا يمكن اصطياد شاب يؤمن إيماناً حقيقياً بما يراه من إنجازات ومكتسبات ويفتخر بها، بل لا بد من تعتيم وتسميم كل الأجواء، وتزهيده بكل المكتسبات التي يراها، فكل شيء حوله يغرق في السواد، وكل هذه المنجزات لا تساوي شيئاً أمام هذا الفساد الذي يزكم الأنوف، وكل هؤلاء الناجحين ما بلغوا ما بلغوا إلا بالواسطة والعلاقات الشخصية، وهكذا تظل هذه الفكرة تتضخم في وعيه حتى يصل إلى درجة الجزم بأنه هو الإنسان الصالح الوحيد الذي يعيش بين مجتمع من الفاسدين! وحين يصل الشاب إلى هذه المرحلة تنقدح أمامه فكرة الخلاص، والهروب من هذا الواقع أو الاحتجاج عليه.
الخطوة الثانية: تحطيم القدوات والرموز: تمثل ثقافة الرمز لدى الشاب أهمية كبرى ليس من جهة تمثل هذا الرمز كأنموذج يمكن أن يحتذيه في حياته لكنه بالنسبة له تمثل المستقبل الذي لم يصل إليه بعد، وكل ما كان الرمز على قدر كبير من الاحترام في عينيه يتحول المستقبل لديه إلى حالة من الأمل والفرح والتفاؤل، وتحطيم الرموز في عينيه يعني باختصار تحطيم المستقبل بأكمله، ولهذا كان من أهم الخطوات التي يركز عليها فكر الغلو هي تحطيم الرموز، خاصة الوطنية منها في عيون الشباب، فالأمير والوزير والمسؤول هم مجموعة من الفاسدين الذين يعبثون بالأموال، والعلماء حولهم هم علماء سلاطين لا تتجاوز مهمتهم تسويغ تصرفات الساسة ومنحها المشروعية، والدعاة هم ليسوا أكثر من سعاة شهرة وطلاب مال، وهكذا حتى تتهاوى الرموز أمام عيني الشاب، فيبدأ في رحلة البحث من جديد عن رموز ملائكية، وهذا هو سر ظهور رموز تنظيم داعش بمثل هذه المظاهر التاريخية في لباسهم وهيئاتهم، وذلك حتى يستدعي الشاب الرموز التاريخية النقية، فيتصور أن هؤلاء القتلة هم كحال أولئك: في غاية الطهر والنقاء! على نقيض ما يتصوره عمن يعيش بين ظهرانيهم: في غاية الفساد والترف!
إن تحطيم الرموز الوطنية والشرعية وتقزيمها قبل أن يكون جناية على الشباب هو جناية على الوطن بكل مكوناته، فتهاوي الرموز الوطنية يعني هوان الوطن وازدراءه في عيني الشاب، وتهاوي الرموز الشرعية يعني استيراد الرموز من خارج الحدود أياً كانت هذه الرموز.. ولا تسل بعد ذلك عن الآثار المدمرة على عقل الشاب ووعيه.
الخطوة الثالثة: غرس فكرة التوجس من الدولة: وهذه الخطوة هي في تقديري لحظة المنعطف في تكوين الشاب أو بوابة العبور نحو العنف الموجه، وهي أول فكرة ذهنية يستقبلها الشاب حتى يمكن تحييده وتوجيهه، والتحكم في زمام تصرفاته، فحينما ينفث في روع الشاب أن الدولة التي تحكمه تتآمر على الإسلام، وأن ما تفعله من هذه الأعمال هو ليس أكثر من مجرد محاولة إخفاء الحقائق الكبرى التي خلف الستار! وهكذا يتم تشويه وعي الشاب ونقاء فطرته بمثل هذه الإسقاطات، فيبدأ الشاب يتعامل مع الدولة باعتبارها ميلشيا خارجة عن القانون، وليس باعتبارها دولة لها حقوقها واستحقاقاتها الشرعية والقانونية.
الخطوة الرابعة: استبعاد مفهوم «الولاية الشرعية»: حينما يتشكل الوعي الشرعي للشاب بعيدا عن هذا المفهوم العظيم، أو يكون الاقتصار في الحديث عن هذا المفهوم في المقررات المدرسية والفعاليات الرسمية، أو يكون هو فقط مجرد حديث يجري على ألسن العلماء الرسميين، بينما يغاب هذا المفهوم أو يضمر حضوره في خطاب الدعاة في الدروس والمحاضرات الدعوية، فأتصور -بعد ذلك- أن من الطبيعي جداً ألا يقيم الشاب أي وزن لهذا المفهوم العظيم، ويكون لديه الاستعداد التام أن يتأول كل النصوص الواردة فيه، بحجة أنها لا تنطبق على هذا الواقع، والنتيجة الطبيعية -لهذا الاستبعاد- أن يكون مجرد الحديث عن مفهوم ولي الأمر عند بعض الشباب محلا للسخرية والتصنيف، وحتى أكون مباشرا أكثر: تأمل الكثير من الفتاوى التي تصدر عن كثير من الدعاة، عندما يسألون عن الخروج إلى مناطق الصراع: ما حكم الخروج إلى سوريا؟ تجد الجواب لا يقترب من هذا المفهوم ولا يكاد يحوم حوله، فقط يتحدث عن المصالح والمفاسد في الخروج وليس أكثر من هذا، ومن الطبيعي جدا إذا انتقلت الفتوى إلى هذه الحلبة «حلبة المصالح والمفاسد» فإن السائل سيفلت من زمام المفتي؛ لأنها قضية نسبية، فما يراه المفتي مفسدة يمكن أن يكون مصلحة في عين الشاب، لكن لو قال له المفتي مثلاً: هذا العمل لا يجوز لأن الخروج من دون إذن ولي الأمر هو يخالف مقتضى البيعة التي بايعته عليها، وهذا متوعد عليه بوعيد عظيم بنص الحديث الصحيح: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ويمكن إقناعه حتى بالمنطق بأن شرط إذن ولي الأمر ليس شرطاً سياسياً، بل عامة الفقهاء مجمعون على هذا، فمالم يكن الجهاد مشروع دولة فلن تجتمع عليه الأمة ولن يحقق المصالح المقصودة منه، إذ هو تدبير سياسي بحت وليس تدبيراً شعبياً، ولم يدخل الأمة في هذا النفق الطويل إلا لأن جماعات العنف اختطفت هذا الشريعة العظيمة، وحولته من مشروع دولة إلى مشروع جماعة، والنتيجة الطبيعية هي ما نراه اليوم من هذه المغامرات والمراهقات التي عصفت بشباب الأمة.
وربما يقول بعضهم معتذراً: إن مجرد الحديث مع الشاب عن مفهوم الولاية وولي الأمر سيجعله يهرب ولربما لن يستمع لبقية الجواب، فمن الحكمة أن يتجه الجواب إلى قضية المصالح والمفاسد، غير أن هذا الاعتذار يجعلنا نقترب من هذه المشكلة أكثر ونكتشف الخلل بطريقة صحيحة! فالسؤال الصعب هنا: من الذي صنع الحساسية تجاه هذا المصطلح لدى الشاب؟! ولماذا ينفر الشاب من هذا المفهوم؟! أعتقد أن الإجابة بتجرد على هذين السؤالين ستجعلنا أكثر موضوعية في حل هذا الإشكال، وستختصر علينا الكثير من الجهود التي نبذلها.
وثمة أمر آخر أورثه غياب هذا المفهوم عن الخطاب الشرعي والدعوي: وهو أن الشاب -نتيجة لذلك- بات يعيش حالة من القطيعة مع الدولة المدنية، ولهذا فهو يعتقد أن وجوده الحالي في كنف الدولة هو وجود استثنائي ومؤقت وعابر، بينما الحالة الدائمة والمنتظرة هي حالة الخلافة، وإذا كانت بعض الأدبيات الدعوية كالأناشيد والمحاضرات تبشر بقصد أو بغير قصد بمثل ذلك، فهي قطعاً ستحفر في وعي الشاب ووجدانه أنه الآن في مرحلة الظلام الطويل، وما عليه إلا الترقب والانتظار، فالفجر سيدق باب الظلام قريبا!! وهذا
-برأيي- هو سر نجاح داعش وغيرها بهذا الاستقطاب الرهيب للشباب المسلم، إذ هي -برأيي- لم تبذل جهداً كبيراً، وإنما غاية ما فعلت أنها جاءت إلى هذه الطوابير الطويلة المصطفة بانتظار الفجر، وقال لهم بالصوت العالي: نحن الفجر القادم، فهلموا إلينا!! فهرعوا إليها زرافات ووحداناً!!