د. حسن بن فهد الهويمل
قبل نَيِّفٍ، وخمسين عاماً، جِئْتُ إلى [مصر] وأنا في عنفوان شبابي، فبهرني كُلُّ شيء فيها. وكانت اهتماماتي آنذاك، تختلف عما أنا عليه اليوم. وليس مهماً استعراض المتعة، والفائدة في الرحلات الأولى، ولا تفصيل القول عما نأتي، ونذر، طوعاً، أو كرها، فيما لحق. فلكل زمان رغباته، وتطلعاته:-
[ومَنْ ذا الذي يا عَزُّ لا يَتَغيَّرُ].
فسبحان الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لايتغير، ولايتبدل. وكل شيء عنده بمقدار.
الأجمل في هذه الحياة الحرباوية، أن نكون قادرين على احتمال مفاجآتها، والتكيف مع متغيراتها، والقبول بما لابدَ منه. وهذا هو الصبر الجميل. والله المستعان على خريف العمر.
عندما جئتها من قبل، كان كل شيء عندي في أوج قوته، وسلامته. وماتركت لحظة واحدة تمر، إلا وهي مترعة بكل جميل، ومفيد.
كنت متفائلاً إلى أبعد الحدود، وخَلِيّاً من سوء التوقع، واستشراف المستقبل. بل كنت لا أرى في الأشياء إلا جانبها الممتلئ، لا أفكر إلا في الساعة التي أنا فيها.
أجد لذة في الأكل، ولذة في النوم، ولذة في التَّسوُّق. فأين بعض هذا، أو ذاك، وأنا أحط رحلي فيها، وقد جاوزت حد السبعين؟
ولهذا الحد من العمر طعمٌ علقميٌّ، في كثير من الأفواه، وعند كثير من الناس. حتى لقد نفلها عدد من الشعراء بقصائد، جسدوا فيها المعاناة، والمتغيرات، وبكوا على أيام الشباب الخوالي، ليُعلموه بما فعل المشيب.
بالأمس لا أُسْتَقْبَل في المطار، ولا يُرتب لي شيء من شؤوني، ولا تدفع لي تكاليف السفر، ولا نفقات الإقامة، ولا تُنْهى أوراقي بالإنابة.
ورغم كل هذا أسعد بلحظة القدوم، ولا أضيق بالوقوف طويلاً في الطوابير، أركب الدرجة السياحية، وأطيل البحث عن سيارة الأجرة، وعن السكن.
وكل شيء في [مصر] بثمن، مع أن رسيس مياهنا تكدره الدلاء. وما نواجهه من عناء، وإنفاق، نجد فيه لذَّة، لايمكن وصفها. حتى لايهمني قضاء الساعات في المطار، ولا قضاء مثلها في الطريق إلى وسط القاهرة، ولا قضاء أكثر من ذلك في البحث عن السكن. وعندي من السعادة ما لا يوصف، حين أكون في [مكتبة مدبولي]، أو في [أكشاك سور الأزبكية] أُنَقِّب عما جد من كتب الأدب، والفلسفة، والسياسة.
أقرأ، وآكل، وأمشي معاً، كما جواد [امرئ القيس]:- [مكر، مفر، مقبل، مدبر معاً]، أما اليوم فكما وُصِفَ غَبَاءُ أحد المنافسين، في الرئاسة الأمريكية [لايَمْضَع اللُّبان، ويَمْشِي في آن].
اليوم آتي [القاهرة] بُجْر الحقائب، ثقيل العياب، لاتكدر بحري الدلاء [مَحْفُولاً مْكْفُولاً] أركب، في الدَّرَجة الأولى، بثمن مدفوع، وفي المطار تقدم لنا التسهيلات. والسكنُ المجانيُّ مهيأ لنا في أرقى الفنادق، وكل شيء بالمجان، حتى السيارة، والمرافق.
وأمام هذه التسهيلات، نجد كلَّ شيءٍ ثقيلاً، لايطاق، مُمِلاً، لايحتمل. حتى لانجد بداً من اختصار الوقت، لنعود إلى أهلنا. بل ربما نقطع المهمة، أو ننجزها بأسرع وقت.
لايلذ لنا طعام، ولا يروق لنا منظر، ولا نهنأ بشيء. فكأننا [المتنبي] وزمانه:-
[أتى الزَّمَانَ بنوهُ في شبيبته.. فَسَرَّهم وأتيناه على الهرم]. [فساءنا]. وهذا من إيجاز الحذف عند البلغاء.
فهل أحد منا عَرَف الحياة المتقلبة، وأحلها من نفسه دار البوار؟. وكيف نُحِلُّها شغاف القلب، وهي دون جناح البعوضة. ومن أجَلَّها، فهو أهون من جناح البعوضة.
عجبي من أناس يقبلون أن تَنْتَعلهم الدنيا، وأن تحتل قلوبهم، لا جيوبهم، يحبون، ويعادون، من أجل لعاعاتها. بل يَقْطعون الأرحام، ويُزْهقِون الأنفس البريئة من أجلها.
لم تكن [مصر] كما عهدتها من قبل. وأنا لم أكن كما عهدتني من قبل. تغيرت هي إلى الأسوأ. ونحن تغيرنا إلى الأضعف. ولكن الذكريات تشدنا بأمراس كتان إلى صم جندلها.
وتلك سنة الإلف، التي لامفر منها، وكم قيل:- [من شرب من ماء النيل، عاد إليه].
جئت مصر مشاركا في [معرض الكتاب الدولي] بالقاهرة، لإلقاء محاضرة عن [الأدب العربي في المملكة العربية السعودية بأقلام النقاد المصريين]، إضافة إلى المشاركة في ندوة مشتركة عن ذات الموضوع، وأتممت ذلك في يومين، لأتعجل العودة.
ما أود الإشارة إليه، أنني لقيت في جناح المملكة حيوية، وحركة، ورأيت إقبالاً لا مثيل له من المصريين.
و[الملحقية الثقافية] جَنَّدت كل إمكانياتها، لتهيئة الأجواء الملائمة، وتحقيق المكتسبات المعنوية.
فكان أن نَصَبَتْ سرادقاً، يتسع للمئات، وأعدت فيه من وسائل الجذب، والراحة، ما أتاح له التفوق، والتألق.
[معرض الكتاب] لم يكن كسابقاته. فلقد حضرت أكثر من معرض في [مصر]، و[المغرب]، و[الشام]، و[العراق]، وعواصم الخليج، وسائر البلاد العربية، فك الله أسرها، وأطفأ لهيب الفتن فيها، وأعادها إلى الأمن الذي خرجت منه، والرخاء الذي فقدته، والاستقرار الذي حُرِمت منه.
وكانت تلك المعارض أكثر حيوية، وأقوى حركة، وأوسع عرضاً. كان في [معرض القاهرة] زحام شديد، وفوضى مربكة، وزوار لا يشترون.
وفوق هذا، فقد ضقت ذرعاً من خلو الشارع المصري من أخلاقياته، التي عهدناها من قبل. ومن ذا الذي ينكر ما يعانيه الرجل المصري، والسائح العربي، والأجنبي، على حد سواء من فوضى الشارع، وزحامه، ومهاتراته، وإهدار أوقاته، بإسراف لايحتمل، وانشغال كل إنسان بنفسه، حتى لا يُنظر إلى عاجز، ولا يؤبه بمحتاج.
هذا فضلاً عن بذاءة الألسن، وتلوث البيئة. ولأنني أملأ فراغي بقراءة ماتيسر من الصحف، وما جد من مؤلفات ذات قيمة. فقد وجدت [كُتَّاب الرأي] و[الأعمدة] في الصحف المصرية السيارة، يركزون على هذه الانتكاسات الأخلاقية، والبيئية.
فمن كاتب يدعو إلى تطهير الألسن، قبل تطهير الشوارع. ومن كاتب يتأسى على فشو الأنانية، واستفحال الأثرة.
ونبض الشارع تجسده أقلام الكتبة، فهل من مجيب؟
ما أخشاه امتداد تلك الظواهر السلوكية إلى شارعنا الخليجي، وإن كانت عندنا عيوب لاتحتمل المزيد، ولكن اليسار المادي، يخصف على العورات.
تلك أشياء مزعجة. وهي دون أشياء أخرى، نعاني منها: كتهافت الشباب على بؤر الفتن. وتفشي المخدرات. وحوادث المرور. وتعدد الانتماءات. وضعف التعليم، وتفشي ذلك إلى حد يخيف الراصدين الناصحين.
لقد عرفت [الأزهر] عندما كنت طالباً في قسم الدراسات العليا، قبل أربعة عقود، ونيف، وأدركت جانباً من حَزْمِه، وعَزْمِه، وشِدَّة علمائه، وهيبتهم، وغزارة عطائهم.
وكنت كلما زرته فيما بعد، يبدو لي تخليه عما كان عليه، من جِدٍّ صارم. وذلك بعض ما أراه في جامعاتنا، وبالذات الأقسام النظرية.
لقد دَرَسْتُ قبل أكثر من نصف قرن في [كلية اللغة العربية] قبل أن تتحول إلى [جامعة الإمام]، وشهدت تبحر العلماء، وحزمهم، وقسوتهم، ومانعانيه مما يوجبونه علينا، على حد [لزوم مالا يلزم].
وماكان أحد منا يستطيع أن يتجاوز مرحلته، إلا بعلم يليق بها. أما اليوم فالأمر مختلف جداً. وأذكر أن أحد الأساتذة السعوديين المتقاعدين، المتعاقدين عَفُّوا عن استمرار التعاقد، وكانت حجتهم أن الطلبة دون المستوى، وأن ذمتهم لا تبرأ أمام هذه الأوضاع المتردية. يقال: إن الضعف لم يَرْقَ إلى التخصصات العلمية. وأنه يشكل ظاهرة عالمية مخيفة، تحتاج إلى دراسة شاملة، ومعمقة، لإيقاف هذا التدهور. ولا يشفع لتقصيرنا كون الضعف عالمياً.
نريد للتعليم أن يستعيد عافيته، وأن يعود إلى سابق عهده. نريد احتراماً للعلم، وتقديراً للعلماء. فَبِعَوْدَةِ عافيته، تشمل العافية كل وجوه الحياة.
وحين تكون ظاهرة الضعف شاملة لكل المدارس، والجامعات: المحلية، والعربية، فإن الحلول لاتكون بيد الجامعة، ولا بيد أساتذتها. بل لا بد من سياسة علياء، تَنْدب الأكفاء، لرسم [استراتيجية] مرحلية، تأخذ الظاهرة من أطرافها، وترسم لها [خارطة طريق] طويلة الأجل. فالظواهر لاتحسمها أنصاف الحلول، ولا الانتفاضات الفردية. وكم هو الفرق بين الوقوعات، والظواهر!
لست أدري لماذا انجر قلمي إلى مشاكل التعليم دون ماسواه، وهي مشاكل لاتُعرض من خلال الخطرات، والانطباعات. ربما كان ارتباطي بالتعليم أكثر من نصف قرن سبباً رئيساً. ثم إنها قضايا مصيرية، لا بد أن تَهُبَّ لها الدولة، قبل الحكومة. فعماد التقدم التعليم، وعماد التلاحم التعليم. وعماد الفهم السليم التعليم. ولا يقيل عثرة أمتنا إلا التحرف الناصح للمناهج، والمواد المناسبة.
فعندما وصل [الاتحاد السوفييتي] إلى القمر، صُدِمَتْ [أمريكا]، ولم تفكر إلا بالتعليم، ومن ثم بدأت الخطوة الأولى بتصحيح مناهجه، ومواده، ومعلميه، ووسائله. حتى امتلكت القدرة على المنافسة.
في مصر كما في المملكة انفجار سكاني، لايُحتمل. و في مصر وحدها شح في الموارد لايطاق، وارتباك في الأداء لايتصور. ومالم يُتَدارك الأمر، فإن العواقب ستكون وخيمة.
مصر تهمنا. وأحوالها حين تضعف، ينعكس أثر ذلك على العالم العربي.
مصر لم تعد قادرة على إيقاف هذه الترديات المتعددة، وهي غارقة في مشاكلها الأمنية، والسياسية. وصراعها مع فلول المناوئين لها، ربما يطول، وقد يمتد جدلها مع المعارضة لسنوات طويلة.
وليس من المتوقع انتصار أحد الطرفين على الآخر بالقوة. لابد من حوار متكافئ بين كافة المكونات السكانية.
كارثة الأمة العربية تتمثل في أثرة مُكوِّن على آخر، لا بد من تكافؤ الفرص، وتداول السلطة، وتساوي الرؤوس.
لقد دخلت [مصر] في الصراع مع الإخوان المسلمين، منذ العهد الملكي.
فاغتيالُ [حسن البناء] رَدَّةُ فِعْلٍ لقتل تنظيم الإخوان السري رئيس وزراء [مصر].
وإعدامُ [سيد قطب] في عهد [جمال عبدالناصر] رَدَّةُ فعل لحادثة [منشية البكري].
وإقدامُ تنظيم الإخوان السَّري على اغتيال [أنور السادات] اعتراضٌ على اتفاق [كامب ديفيد].
وهكذا تعيش مصر، والأخوان بين جزر، ومد. والناصحون لأمتهم، لايودون إرتهان المصائر للفعل، ورد الفعل، في أي وطن عربي.
أحسب أن الوقت قد حان للمكاشفة، ووضع حد لهذا الخلاف، الذي طال أمده. وأعتقد أن مصر بحاجة إلى تغيير سياستها، لإحتواء كافة الأحزاب، والتنظيمات، بوصفها من مكونات الشعب المصري، وهو ماتحتاج إليه دول المنطقة كافة.
فالمواجهة العسكرية من أسواء الحلول. وهي الحل الأمَرُّ، حين لايكون هناك مجال للحوار، وتقاسم المساحات. بحيث تتجه كل المكونات السكانية لخدمة [مصر]. وبحيث تكون مصلحة مصر فوق كل المصالح الحزبية، والطائفية.
[مصر] في جفن الردى، وهو مستيقظ متحفز، وظروفها لاتساعدها على الحسم لمصلحة النظام.
المملكة تدرك ذلك، وهي تراوح بين الإتفاق المطلق، والتأييد المشروط.
والمتخوفون يظنون أن القطيعة مع مصر على الأبواب، وهذه قراءة خاطئة لمثل هذه المراوحات.
المملكة لها خياراتها، وأولوياتها، وحساباتها. وعلى كل الأطراف إدراك ذلك.
العالم العربي من المحيط إلى الخليج، بحاجة إلى فهم أدوائه، ومباشرة حلها بنفسه، لإنقاذ مابقي من هذه الفوضى الهدامة. حتى وإن اضطره ذلك إلى خوض أعنف المعارك.
ولربما تكون [عاصفة الحزم] أولى الخطوات الراشدة. لقد خاض التحالف حرباً بقيادة المملكة، وهي في الواقع خيار أصعب، لإيقاف التدهور الأمني، في أطول حدود لنا، وللحيلولة دون الهيمنة الطائفية، التي تعد أم الخبائث في وطننا العربي.
وهي حرب محسوبة بكل دقة، ومحددة بكل وضوح، ورسالة لكل من أحرقت أطرافه صراعات الطائفية.
والقراءة الأدق، والأصدق، تؤكد أن مشاكل [العراق]، و[الشام]، و[لبنان]، و[اليمن]، مَرَدُّها إلى النفس الطائفي البغيض، الذي يريد خطف السلطة من سائر المكونات الوطنية. ومصر هي الأخرى تحت نزاعات الآحزاب.
وكل دولة تقاتل من أجل تسلط مكوِّن على آخر، تأكل نفسها، وإن رَمَّ جُرْحُها، فإنما يَرِمُّ على فساد. و[العراق] و[الشام]و [اليمن] أوضح مثال.
فهل يعي دعاة الفتنة، وفلول الطائفية، والحزبية هذا الدرس، ويعودون إلى رشدهم بتأثير القول السديد، لا بقوة الفعل العنيد؟.