يوسف بن محمد العتيق
يقول أحد المتقدمين وهو عبد الله ابن المعتر: (المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علماً،كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء).
هذه الجملة الموزونة ساقها المؤرخ الكبير الخطيب البغدادي من علماء القرن الخامس الهجري في كتاب له بعنوان (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهو كتاب كبير الحجم والمضمون مخصص لآداب طالب العلم والتحصيل العلمي والثقافي، وفي هذا الكتاب حديث مهم، ونقول مطولة ومتعددة عن المتقدمين في سلوك طالب العلم، مثل التبكير إلى مقاعد الدراسة،المحافظة على الكتاب،آداب التعامل مع من هو متقدم عليك في التحصيل أو من هو أقل منك أو مساو لك!!
ولم يخل هذا الكتاب من حديث عن لبس الطالب وهيئته إلى آخر ذلك من سلوك طالب العلم.
وقد سقت هنا هذا النص من الكتاب عن التواضع عند طالب العلم والمثقف والقارئ لأنه سلوك مهم يترتب عليه قبول الناس ما تقدمهم لهم من معلومة.
ولأن المتكبر لن يأخذ معلومة ممن هو أعلم منه، ولو أخذ معلومة فلن يوصلها للآخرين بشكل جيد، هذا على فرض أن سنجد من يستمع له!
المتكبر والمتغطرس والمتعامل بفوقية لم يكن في زمن من الأزمان محل تقدير تلامذته إذا ابتلوا بالدراسة عليه، وينقلون ذلك عنه.
ولعلي هنا أنقل للقارئ الكريم نصين طريفين في مجال غرور العالم والمثقف وكيف ينظر له المجتمع لا سيما زملائه ومن يختلط به.
المثال الأول: أحد علماء النحو يطلق عليه ملك النحاة لعلمه الغزير في النحو إلا أنه يحتقر غيره من علماء النحو واللغة العربية، فكان الطلبة يسألونه عن عالم آخر في تخصص النحو نفسه، فلا يذكره بخير، بل يذكره باحتقار ويقول عن العالم الآخر (كلب من الكلاب!) فما كان من أحد الطلبة المنزعجين من أسلوبه المتعالي إلا أن قال، أنت لست ملك النحاة، بل (ملك الكلاب!) لأن هذا العالم النحوي يعد كل نحوي آخر كلب، فأتاه الرد صاعقاً من هذا الطالب، فما كان من هذا العالم المغرور إلا أن طرد الطالب.
والمثال الثاني، وهو من طلب العلم وليس العلماء، يقال له حجاج بن أرطأة، فقال له الزملاء لماذا لا تحضر الدروس العلمية، فقال أحضر مع البقالين والحمالين!
مترفعاً عن مجالس العلم التي يحضر فيها الباعة والعمال، وكان من دهاء (أو شطانة) زملائه أنهم يلاحظون أنه إذا حضر الدرس العلمي يحضر متأخراً، فيحاولون مناكشته فيقولون له تعال إلى صدر المجلس، فيرد عليهم ويقول (أنا صدر حيث كنت) يقصد المكان الذي أجلس فيه هو صدر المجلس، من غروره المتناهي واعتداده بنفسه.
كل ما تقدم أعلاه يدل على أن مسيرتك أيها الباحث والمثقف وطالب العلم موثقة، وأن سلوكك محل رصد الآخرين وتقييمهم، فضع نفسك في المكان الذي ترغب أن ينظر إليك الناس فيه في حياتك وبعد مماتك.
ونقولها هنا بكل أمانة وتسجيل موقف، كما كان المتقدمون يقولون إننا (بحاجة إلى قليل من العلم وكثير من الأدب)، فالذي رسخ في أذهاننا من أساتذتنا هو صبرهم علينا وتحمل أسئلتنا فكان المعلم الخلوق هو المعلم الباقي بعلمه وشخصه.