علي الصراف
تعود مساعي إيران لتفتيت دول الجوار إلى ما قبل التاريخ. ولقد أصبحت هذه المساعي جزءاً من طبيعة إيران، كائناً من كان الذي يحكمها.. حتى ليمكن القول إن وجود إيران نفسه مرتبط بهذه المساعي.. وتحت ذريعة أو أخرى، فقد ظل هذا الهدف راسخاً على امتداد آلاف السنوات.. إنه ليس قصة اليوم أو البارحة، على الإطلاق. مثلما تقوم العقيدة الأمنية الإسرائيلية على القول «إن قوة إسرائيل من ضعف جوارها»، فإن عقيدة الوجود الإيرانية تقوم على القول «إن قوة إيران من تمزيق جوارها».
وهذا ما نجحت إيران بتحقيقه في العراق وسوريا، حيث يسود البطش والمجازر والانقسامات، وهو ما تحاول تحقيقه في اليمن. وعندما نسبت إيران نفسها للمشروع الصفوي، فقد كان هذا المشروع سابقة أولى للمشروع الصهيوني من حيث كونه أيديولوجية تتخذ من الدين ستارا لأغراضها الإستعمارية. ومثلما صارت إسرائيل ثمرة لنجاح المشروع الصهيوني، فقد كانت إيران، وما تزال، ثمرة لنجاح المشروع الصفوي.
بعض أدلة التاريخ قد تنفع في إيضاح الصورة
يعود اسم «إيران» إلى أنها كانت تعرف كموطن لـ»الآريين». والآريون ليسوا بالضرورة فرساً من الناحية القومية. ومن الواضح أن تسمية «بلاد الفرس» ذات طابع قومي أضيق، لأنها تحول دون ظهور بقية الآريين في الصورة كالأذريين والبلوش والأكراد.
ظل البدو الفرس ينظرون بعين الحقد والطمع على ثراء السومريين وحضارتهم. وظلت بلاد السومريين ترد هجمات الهمج واللصوص منهم الذين كانوا يحملون من حين إلى آخر على أطراف الإمبراطورية السومرية التي نشأت في نحو الألف الرابع قبل الميلاد واستمرت حتى نحو العام 1700 قبل الميلاد.
وكان البدو الفرس في نحو الألف الأول قبل الميلاد خاضعين للإمبراطورية الآشورية. ولكنهم سرعان ما استقلوا بدولتهم ودمروا الدولة الآشورية، وعلى أنقاضها أقام قورش (559-530 ق.م) امبراطورية فارس. ويعود أحد مصادر الحب السري بين الفرس واليهود (وتاليا بين إيران وإسرائيل) إلى أنه في عام 539 ق.م استسلمت بابل سلمياً لقورش، فحرر اليهود من السبي البابلي.
توفي قورش عام 529 ق.م. ولكن إمبراطوريته شهدت فترات من الإزدهار والتفوق لاسيما في عهد الملك دارا عام 521 ق.م الذي أسس نظاماً إدارياً ناجحاً للأقاليم وأنشأ طرقاً وموانئ للتجارة ونظاما للري. وسمح هذا الازدهار بتحول فارس إلى قوة تمكنت من التدخل في شئون أثينا وألبت شعبها ضد شعب سبارطة لتدفعهما إلى خوض حروب استمرت 150 عاماً انتهت بحريق أثينا نفسها. فتارة كانت تساعد الأثينيين ضد السبارطيين، وتارة تفعل العكس. وبفضل هذه السياسة (وهي أصل كل السياسات الاستعمارية اللاحقة المسماة «فرق تسد») تمكنت فارس من الظهور كقوة عظمى هيمنت على العالم القديم لنحو قرنين من الزمان. ولكن في عام 334 ق.م ثأر الإسكندر الأكبر المقدوني من بلاد فارس وأسقط دولتها. وبعد انتصاره على الجيش الفارسي أمر بإعدام كثير من الفرس وأحرق مدينة برسيبوليس انتقاماً لحرق مدينة أثينا.
تقلبت أجزاء من إيران بين الدولة السلوقية (323-141 ق.م) وبين دولة البارثيين (247-224 ق.م) التي ورثها الساسانيون الذين أحيوا الحضارة الفارسية والديانة الزرادشتية، وفي عهدهم ظهر ماني 274م. مؤسس مذهب «المانوية» الذي سيمزج الفرس بينه وبين بعض اتجاهات المذهب الشيعي فيما بعد. ويقدم محمد عابد الجابري إشارات قيمة في هذا المعنى في كتابه الشهير «تكوين العقل العربي».
في عام 642م انتصر المسلمون على الفرس في موقعة نهاوند، وأنهوا حكم الأسرة الساسانية التي دامت 416 عاماً ودخل الإيرانيون الإسلام وقبلوا ولاية العرب المسلمين عليهم. ولكن، في حين كان الفرس همجاً في أعين السومريين والبابليين، فإنهم بعد نهضتهم القورشية، صاروا يعتبرون العرب المسلمين همجاً غير متحضرين. فظل الحقد القومي قائماً في صدورهم، رغم قبولهم بالإسلام.
ولئن كان النزاع على الخلافة مع علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) انتهى بمقتله عام 661م إلا أن بلاد فارس انتظرت تسعة قرون بعد ذلك قبل أن تصبح دولة شيعية. إنما لسببين لا علاقة لهما بـ»الحب» المزعوم لآل البيت.. الأول: هو نكاية بالدولة العربية الأموية، التي أسهموا بإسقاطها، والعباسية التي هيمن الفرس على أواخرها حتى تحطمت.. والثاني: هو إيجاد إطار أيديولوجي لوحدة القوميات الآرية المتنازعة، لكي لا يبدو الفرس من خلاله كقومية مهيمنة. فالفرس لبسوا الثوب الشيعي، وسعوا إلى جعل القوميات الآرية الأخرى تلبسه معهم لكي يقال إن «الأمة» الإيرانية هي أمة واحدة عبر غلبة المشروع الأيديولوجي لا عبر غلبة قومية على أخرى.
تُنسب الدولة الصفوية إلى صفي الدين الأردبيلي الذي كان من شيوخ الصوفية التقليديين. هذا هو صاحب المذهب. أما مؤسس دولة المذهب (بين 1501 و1524م) فهو إسماعيل ميرزا أو الشاه إسماعيل الأول، الذي أعلن المذهب الشيعي الاثني عشري مذهباً رسمياً للدولة. واستخدم كل ما أوتي من قوة لفرضه في جميع أنحاء إيران بالعنف والقهر والقوة، وذلك لجعله أداة لوحدة الدولة، وليس حبا بعلي بن أبي طالب ولا بالحسين ولا بآل البيت، فهذا الحب كان مجرد خدعة وأداة لأغراض سياسية محلية.
وحيثما كانت المجازر الوحشية هي السبيل لفرض المذهب على القوميات الأخرى، فقد ابتدع الصفويون بدعة «التطبير» لتكون بمثابة تعويض نفسي عن تلك المجازر. وكان التشييع القسري سبباً لحروب طويلة بين الصفويين الإيرانيين من جهة، وبين العثمانيين السنة في الغرب وقبائل الأوزبك في الشرق، من جهة أخرى. وبطبيعة الحال، فقد امتدت نيران هذه الحروب ونزاعاتها إلى العراق الذي أصبح نهبا لهذا الطرف تارة، وتارة للطرف الآخر. ولكن نجاح العثمانيين بالسيطرة على ولايات العراق، حتى قيام الحرب العالمية الأولى، ومجيء الإستعمار الحديث، حرم الدولة الصفوية من مكسب جيوإستراتيجي ظلت تحن اليه وتلطم عليه.. إنما باسم حب علي والحسين طبعا. وكان هذا الحب المزعوم هو أول «التقيّة»، قبل أن تتغلف التقيّات بتقيات أعقد منها.
لاحظ المعنى من وراء النسب الإحصائية التالية: فمن الناحية العرقية يشكل الفرس 45% من مجموع السكان البالغ عددهم نحو 70 مليون نسمة حسب إحصاءات عام 2000. وهناك 25% أذريون، و8% جيلاكي ومازنداراني، و8% أكراد، و4% عرب، و3% لور، و3% بلوش، و3% تركمان، و1% «آخرون» (يهود وغيرهم).
ولكن القوة التوحيدية للمشروع الأيديولوجي الصفوي تظهر في النسب الرسمية التالية: فهناك بين المسلمين، 89% من الشيعة، و10% من السنة (بالدرجة الرئيسية من العرب والأكراد والتركمان)، و1% زرادشتية ويهود ومسيحيين وبهائيين.
إذن، فانك لو نظرت إلى إيران من المنظور القومي سترى شيئاً، ولو أنك نظرت إليها من المنظور الطائفي سترى شيئاً آخر.. وجود إيران كدولة، يعتمد على المنظور الثاني. وهزيمتها تعتمد على الأول. هناك حس قوي بهذا داخل إيران. ولهذا السبب فإن المنظور الثاني متوتر دائماً، و»ثوري» باستمرار، ويسعى إلى التمدد في الجوار لكي يبرر بقاءه.
والمفارقة هي أن المشروع الصفوي الذي استخدمه الفرس كأداة للتوحيد في إيران، يستخدمونه في الجوار كأداة للتقسيم والفرقة وأعمال الإبادة الطائفية!.
لماذا؟.. الحقيقة هي أن المشروع الصفوي الذي كان مشروعاً للتقية (تغليف مصالح السياسة بأيديولوجية دينية)، كان بدورة مشروعاً لتقية أخرى، حيث تتغلف المطامح القومية الفارسية بغلاف ديني لكي تخفي طابعها القومي عن غيرها من القوميات الإيرانية الأخرى. وهكذا، فهم في إيران: شيعة، ولكنهم في الجوار: فرس، يحلمون بأحلام فارس ويتغلغلون كشيعة!.
السؤال الحاسم هو: إلى أي مدى نجح المشروع الصفوي في تحقيق الوحدة القومية في إيران؟.. ألا توجد أعمال ومظاهر اضطهاد قومي وتمييز عرقي بين الأقليات القومية الإيرانية؟. كل الأيديولوجيات تنطوي على خدعة. تلك هي طبيعتها في الأصل. والخدعة الصفوية ليست أفضل من غيرها. فأعمال التمييز والقهر والقمع جارية على قدم وساق بين الأقاليم الإيرانية. والسجون الإيرانية تمتلئ بالآلاف من الضحايا المناهضين لسلطة الملالي التي يستخدمها الفرس كغطاء لهيمنتهم على الدولة وحرمان الأقليات من حقوقها الثقافية والسياسية.
والوسيلة التي يستخدمها الفرس لإملاء هيمنتهم لا تقتصر على القمع المسلح، ولكنها تصل إلى حد القتل والترويع والإعدامات من خلال محاكم عشوائية تتسم بطابع همجي مكشوف.. لقد ظل المشروع الصفوي يمثل أيديولوجية الدولة الإيرانية على مر القرون الخمسة الماضية، كائنا من كان يقف على رأسها. وهو الذي يمنحها هويتها ويغذي أطماعها بالجوار. ولا توجد قوة في الأرض يمكن أن تقنع الصفويين الجدد بان حدود إيران الحالية هي أقصى حدود المشروع. فهذا المشروع إذا فقد توتره وثوريته وتطلعاته التوسعية، يموت. هذا هو الشعور الغالب هناك. ولهذا السبب، فإن الصفويين لن يكفوا عنّا وحشيتهم وجرائمهم ولن يتركونا نعيش بسلام أبداً. ولن يتوقف اللطم على الحسين لكي يكون غطاء للطم على الإمبراطورية الساسانية الغابرة، كما لن تتوقف «محبة آل البيت» عن ان تكون تقية للثأر من موقعة نهاوند.
ولقد هزموا مرة بعد أخرى. حتى ليكاد التاريخ الفارسي كله هو تاريخ هزائم. وهذا سبب آخر للتوتر الدائم، والميل الدائم إلى ارتكاب المجازر.. ولكن الشعوب التي تغطي عوراتها في التاريخ بالتقية والزيف، تظل إلى الأبد تدفع ثمن هزائمها فيه.