علي الصراف
تأمل في الوجوه. إنهم بسطاء وطيبون. يكدحون في شتى المسالك، وتراهم في كل وجهة منشغلين. فيهم الكثير من اجتهاد النمل ودأبه. تلك هي الحياة. إنها بسيطة جدا. يذهبون إلى أعمالهم، ويعودون منها مُتعبين. يسترخون طلبا للراحة، استعدادا ليوم عمل آخر. وهكذا. مشاكلهم هي مشاكل كل يوم. يسألون عن راحة البال. لا يطلبون الكثير.
عيش كريم فقط. يقضون معظم حياتهم بين عمل ومنزل. يلبون رغبات ومتطلبات الأسرة والأطفال والأقارب والجيران أكثر مما يلبون لأنفسهم. الإيثار والتضحية جزء من مألوف الطبيعة فيهم. يتعبدون ويستغفرون. ويظللهم الخشوع. يميزون، بالحدس قبل المعرفة، بين الخطأ والصواب. ويتقون إلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين. إذا ائتمنتهم ائتمنوا. وإذا استنجدت بهم أنجدوا. يعيشون في منظومة قيم وأخلاقيات تشمل كل وجه من وجوه حياتهم. وفي الغالب، فإنهم لا يتحدثون عنها. إنها شيء طبيعي فيهم؛ شيء مفهوم مسبقا ولا يستدعي أي حديث. حتى انك إذا تحدثت بها فقد لا يفهمون كلامك. أنت تميل إلى التنظير ربما. بينما هم يعيشون ما قد تُنظّر له أو تتفلسف فيه.
يعرفون جيدا أنهم لن يأخذوا منها، ساعة الرحيل، جاها ولا مالا. سيذهبون إلى بارئهم عراة، إلا من صالح الأعمال وطيب الذكر. ولكنهم يكدون ويكدحون، وكأن كدّهم وكدحهم فرصة لصيد الفوائد الباقيات.
إنهم أهل خير ومودة وتراحم وعفو. وهم أهل رضا بالكفاف وبالقليل. العطاء زادهم ولو كانوا معوزين.
لقد خلقوا هكذا. وزادوا على خلقهم بالتقوى. التقوى كلمة قد لا تعرفها اللغات أو الثقافات الأخرى كما نعرفها. ولكنها شيء عميق في نفوسهم؛ شيء لا يمكن شرحه بسهولة، أو حتى فهم جوهره الساطع والغامض في آن.
إنهم مسالمون أيضا. طباعهم لا تسمح لهم بالعنف. إنه أذى يلحق بأبرياء. وهذا مخيف لمن يخشى أسئلة الآخرة. لا تؤذيهم، ولا يؤذوك. تلك هي القاعدة الأساس. وبالرضا فقد ينزع أحدهم ما عليه، ليعطيك أو يسترك، ولكن ليس بالقوة. ليس بالخوف. ليس بأي وسيلة من وسائل الضغط الأخرى.
إذا عاملتهم باحترام، احترموك. وإذا قابلتهم بوجه بشوش، انفرجت لك أساريرهم.
أيامهم مثل بعضها. يؤدون واجبات ربهم، ومن خلالها كل واجبات أخرى. الله -عزّ وجل- موجود معهم في كل حين. موجود في كل خطوة. موجود في السلوك والكلام. إنهم يذكرونه ليس من باب التدين والتقوى فحسب، ولكن لأنهم يشعرون بقيمة أنهم من خلقه، يعيشون على أرضه، ويأكلون من رزقه، ويدينون له بالفضل إذا اغتنوا، ويشكروه حتى إذا أصابهم مكروه.
إنهم أناس عاديون تماما. وعاديتهم ربما كانت هي الاستثنائي الذي لا يراه المثقفون. بسطاء، وعلى طبيعتهم يحبون ويعطفون ويكرهون ويغضبون ويصلحون ويخطئون ولكنهم يخافون الله ويخشون قدرته عليهم. وسطيون، متسامحون، ومعتدلون. ولا يقبلون المبالغة ولا الشطط في دينهم ولا في دنياهم.
أولئك هم الغالبية العظمى من الناس. إنهم أصل العيش، كعيش كريم. وأصل الإنسانية. ولأنهم كذلك، فإن التطرف لن يتمكن منهم.
أي تصور للوجود، أي فكرة، أي مشروع أيديولوجي، أي نظام للحياة، لا يلائم الطبيعة «العادية» للبشر، لا يمكنه أن يكون إلا فقاعة صابون.
الناس الطيبون هم الأغلبية، وهم الغالبون.
يمكن للإرهاب أن يكسب المغالين والمتطرفين والمتشددين والمتعصبين، إلا أنه لن يكسب الناس الطيبين، لأنه مناف لطبيعتهم.
ولن يعود بوسعه أن يكون تعصبا وإرهابا، لو أنهم جاءوا إليه. لأنهم بطيبتهم وتسامحهم، وبطبيعة خلقهم، سيغلبونه.